د. نسيم الخوري ماذا يفهم القارئ العربي إذ يقال له إن «المجتمع الإنساني» أو «المجتمع الدولي»، يدين دولة ضعيفة من العالم؛ لأن ما يحصل فيها يتناقض مع «حقوق الإنسان»، أو مع «مواثيق المؤسسات الدولية» أو «مبادئ الأمم المتحدة» و«القوانين الدولية». له الحق ألاَّ يفهم شيئاً، ونحن معه، عندما نجد أنفسنا نكرر كلمات مبهمة المضامين، تشابه العديد من المصطلحات والمفاهيم الأخرى المعربة عن الإنجليزية أو المولدة عربياً، بما يناقض مضمونها الأصلي الأممي، منذ أن ضربت فلسطين بصاعقة 1948، وصولاً إلى صواعق «الربيع العربي» منذ سبع سنوات.لو خطونا نحو لبنان المشغول بالانتخابات البرلمانية اليوم، والتي قد لا تخرج كثيراً إلى المشهد المألوف في الانتخابات البرلمانية، لوجدنا الفتون الشعبي بمصطلح جديد هو «المجتمع المدني». ما الذي يعنيه هذا المصطلح/اللعبة، الذي قد يفهمه البعض بكونه مجتمعاً غير عسكري أو غير أمني، ولا علاقة له بالسلطات المألوفة، أو هو خارج من المدينة أو من العاصمة رافضاً لما هو سائد. وقد يفهمه آخرون بكونه المناهض للمجتمعات القبلية والريفية، مع أن جذور المصطلح خرجت أمريكياً من رحم تجمع جمعيات لمجموعات من المواطنين الناشطين في الميادين المختلفة، والتي قد تجد ظرفاً لتتعاضد من أجل تصويب أخطاء يرتكبها الحكام أو كبار الإداريين في المؤسسات الرسمية والخاصة. وبهذه العودة صار يعير «المجتمع المدني» بالتبعية للغرب. كيف نفك مصطلح «الدولة الفاشلة» مثلاً، المتداول على أكثر من مستوى وغرض في نظرة الغرب إلى بعض دولنا؟ إنه مصطلح صار مألوفاً في الثقافة العربية المعاصرة، ويختلط بمصطلحين آخرين مشابهين مثل: «الدولة المارقة»، أو «الدولة الهشة»، أو «الضحلة».للتدقيق، جاءت الإشارة الأولى لفشل الدول على اللسان الأمريكي، توصيفاً للدول الشيوعية بين 25 أكتوبر/تشرين الأول 1917، و25 ديسمبر/ كانون الأول 1991، حيث عاش العالم مع الاتحاد السوفييتي الامبراطورية العظمى التي دحرت ألمانيا النازية، ونافست الولايات المتحدة، قبل أن يعلن إسقاطه من الداخل دون إهدار نقطة دم واحدة. وفي عام 1993 نشر مقال في مجلة الفورين أفيرز، بالعنوان ذاته، وفي 2005 أصدر صندوق السلام تقريره السنوي، الذي صنف فيه يوغسلافيا وهاييتي والصومال، والسودان وليبيريا وكمبوديا، دولاً فاشلة غير قادرة على الحفاظ على نفسها كدول. وكاد الفشل ينحصر في 3 عناوين كبرى، هي سلب الموارد، والأزمات الداخلية، والكوارث المناخية والضغوط الخارجية، لتتفرع مواصفات الفشل في ذرائع منها الانهيار الاقتصادي، وفقدان الشرعية، وانتهاك حقوق الإنسان، وفشل الخدمات العامة، وغياب القانون، وسيطرة أجهزة الأمن على الدولة، ونماء غير متوازن، ونزيف بشري، وبعثرة الديمغرافيا عبر النزوح والهجرة، وتدخل خارجي حائل دون نهوض الدولة.كيف نفهم العالم، بل كيف نتصالح معه ونفهم لغته ومصطلحاته، ونفك استراتيجياته، ونعري مطامعه، وبأي عين أو عقل ننظر إليه، لو وضعنا هذه المواصفات أو المصطلحات أمامنا، وحاولنا تطبيقها ونحن نتطلع بحرقة وضعف دفين إلى دول العرب، وتحديداً إلى مدينة القدس مثلاً، وإغلاق باب كنيسة القيامة بالمفتاح الحديدي الصدئ، الذي لولا إعادة فتحه تحت الضغوط، لكان يختتم الزمان المسيحي في مهد المسيح، ويختم على مفاهيم المثل وسلوك الإيمان أمام المؤمنين؟ أليس في المصطلحات تقيم الدول العظمى لتفرغ المسيحيين من مسيحيتهم، بعدما أفرغت جوهرهم في الغرب، وتتطلع نحو إعياء المسلمين وتجويف حضورهم من عقائدهم وتواريخهم؟ بأي مصطلح نقرأ إلحاح الولايات المتحدة الطارئ واستعجالها بنقل سفارتها إلى القدس، أو بطلب «إسرائيل» من الكنائس فرض الجزية والخوات لها من صواني المؤمنين؟ تراجعت؟ لننتظر ونرى.لنعترف بأن ظاهرة لغوية مستوردة تخلط الفشل بالنجاح، وتجتاح الألسن والنصوص في وسائل الإعلام، كما في تصريحات السياسيين وخطبهم. هذه الظاهرة تضرب في الجذور، وقد تطفو على السطح بهدف التعمية أو عدم الوضوح، ولطالما صادفناها عناوين لحروب قاسية طاحنة كانت حافلة بالرمزية والشاعرية. كان الهدف الأقصى وما زال، بث الضياع إلى حدود التشويش في معايير الضعف والفشل، مقابل القوة والنجاح في توصيف الدول وأراضيها وشعوبها.ما يطرح اليوم حول الدول الفاشلة له حيز كبير من الاهتمام، وقد كتب وسيكتب فيه الكثير، لكنها مقاربات تفتقد إلى الرؤية المتسلسلة المنطقية والبحث أو التحليل أو التمحيص.ليس هناك من معايير دولية جازمة في مواضيع القول ب«الدولة الفاشلة»، هناك ربما قوانين أو إشارات تسقط على بعض الدول التي تطوع أصابعها العشر وتشهرها في وجه العالم، ويصبح العالم ساهراً على العدالة الدولية المستحيلة، فتصبح المعاندة خروجاً عن تطبيق «الإرادة الدولية» (كيف نعرف الإرادة الدولية ؟) بما يهدد الأمن الدولي، لكن تلك الإشارات في مجلس الأمن أو الأمم المتحدة، لا تصبح قوانين تقر بالفشل إلا عند تعميم شعارات السيادة والمواصفات المستوردة الكثيرة، كسجادات تعبر فوقها نحو تحقيق عصر السيطرة الناعمة الجديدة. drnassim@hotmail.com
مشاركة :