يطرح المحللون والمختصون في علم الاجتماع كل وقت سؤالا ملحا ومهما ومتكررا ومستمرا: ما الذي يجعل تطبيقات التواصل الاجتماعي تحقق كل هذا القبول والتأثير؟ وما الذي جعل بعضها يتفوق على الآخر؟ ولفهم هذه المسألة بشكل علمي لا بد من الاستناد إلى نظرية نموذج قبول التقنية TAM، كإحدى النظريات العلمية المهمة التي لاقت قبولا واسعا في الدراسات العلمية لتفسير الأسباب التي تساعد على تبرير سلوك وأنماط المتلقي تجاه برامج التقنية وتطبيقاتها، وهذا النموذج يرتكز على ثلاثة محاور متمثلة في حجم الفائدة من استخدام التقنية، أي: الدرجة التي يكون عندها استخدام برنامج أو تطبيق أو نظام معين من شأنه أن يعزز ويكون مفيدا محققا لأهداف المستخدم له. المحور الثاني وهو سهولة استخدام التطبيق، بأقل جهد ممكن ومعرفة مسبقة ممكنة، بلا حواجز ولا واجهة معقدة. المحور الثالث وجود عوامل عديدة تحدد ما الفائدة المرجوة من التقنية، وما السهولة المقصودة عند المستخدم. وقدرة أي تطبيق على تحقيق هذه المحاور يعني الفوز بقبول عام، وبالتالي تحقيق أرباح ومكاسب غير عادية في جوانب مختلفة ومتنوعة. وفي هذا السياق فإن ظهور برامج وتقنيات شبكات التواصل الاجتماعي أحدث ثورة ضخمة في نظرة المجتمعات للتقنية خاصة جيل الشباب منهم، واستطاعت هذه التقنية الجديدة تحقيق احتياجات هذه الفئة للظهور العلني والشهرة والتعبير الحر، مع منافع مادية كبيرة فيما لو استطاع مستخدم التقنية التحول إلى شخصية ذات تأثير، كما حققت هذه التطبيقات قبولا واسعا نظرا إلى سهولة الوصول إليها والتعامل معها، دون تعقيدات تقنية ولا معرفة مسبقة ولا تدريب طويل، وهو ما منح عديدا من الناس فرصة استخدام هذه الأجهزة المعقدة تقنيا بصورة سهلة لا مثيل لها، فدخلت إلى هذا العالم الجديد شخصيات كان من الصعوبة بمكان وصولها باستخدام أدوات التواصل القديمة، لكن هذا صنع هواجس اجتماعية وأمنية لا حصر لها. ففي وقت كانت هذه التقنيات محصورة في شركات التقنية الأمريكية خصوصا، انقسم العالم أمامها إلى مستخدم لهذه التطبيقات أو مزود للمواد الأساسية المصنعة لبرمجياتها، وبقيت شركات وادي السيليكون الأمريكية مثل "فيسبوك، تويتر، مايكروسوفت، أبل" تعد المحركات الأساسية لشبكات وتقنيات التواصل الاجتماعي ومفاهيمها. لكن مع هواجس مثل التجسس والتنصت، والاختراق، والتزييف، تزايدت إجراءات الوصول إلى هذه المنصات، وأصبح تسجيل الحسابات ورفع الملفات يتطور والتشريعات تزداد تعقيدا، كما أن آليات وصول أصحاب هذه الحسابات إلى مستوى مرض من الدخل من المتابعين قد أخذت تزداد صعوبة، وهذا بالطبع أثر في نموذج قبول هذه التقنيات وفقا للنظرية المشار إليها، لكنه فتح المجال لظهور لاعب جديد على الساحة وهي منصة تيك توك التي أصبحت المنصة الأكثر قبولا بالنسبة إلى أي شخص لديه هوايات يمكن مشاركتها، أو صور من حياته الاجتماعية يرغب في مشاركتها مع الآخرين، وذلك منذ إطلاقها في 2016، فبرز تطبيق تيك توك كمقاطع فيديو قصيرة في منصة عالمية ممتعة يمكن الوصول إليها من قبل مليار مستخدم، وظهرت هذه المنصة العالمية في وقت تعمل منصة تويتر على تعزير مفهوم الفائدة من التطبيق مع صعوبات رفع مقاطع الفيديو القصيرة، وقيود أخرى. ووفقا لتقرير الحركة العالمية لشركة كلاود فلاير، تفوقت تيك توك العام الماضي على جوجل دوت كوم لتصبح نطاق الإنترنت الأكثر شعبية، وأصبحت المنصة بلا شك ظاهرة ثقافية واجتماعية وتجارية غير عادية في أكثر من 150 بلدا، فهي سهلة الاستخدام للغاية وتساعد على تحقيق الدخل من المحتوى الخاص، كما تروج المنصة لمقاطع الفيديو من خلال رسم بياني للمحتوى بدلا من الرسم البياني الاجتماعي، الذي تستخدمه المنصات الأخرى. ويشير بعض استطلاعات الرأي في مناطق مختلفة من العالم إلى أن نحو 67 في المائة من الأشخاص الذين شملهم استطلاع للرأي يستخدمون هذا التطبيق مقارنة بـ 32 في المائة فقط يستخدمون "فيسبوك" التي كانت مهيمنة في السابق. ولا شيء مقلق عموما في وجود منصة تواصل اجتماعي وتقنية جديدة في العالم تنافس منصات التواصل الأمريكية، بل إن هذا يقودنا إلى عالم من الاقطاب المتعددة في فضاء الإنترنت. ويعد وفقا لنظريات السوق الحرة مناسبا لفك الاحتكار الكامل لهذه التقنيات من الشركات الأمريكية التي تزايدت فيها نسب الاحتكار مع استحواذ شركات فيسبوك بعمليات واسعة نشأت عنها اتهامات، ورفعت قضايا ضد هذه الشركات في الولايات المتحدة بتهم انتهاك قوانين مكافحة الاحتكار من خلال الاستحواذ على شركات ناشئة مثل "إنستجرام" التي تم اعتبارها تهديدا لحرية الأشخاص والأسواق، فظهور شركة من خارج الولايات المتحدة يمنح المجتمعات فرصة للاختيار بين البدائل، ويرفع سقف المنافسة لتقديم تقنيات تتسم بالقبول المتزايد من خلال قدرتها على تحقيق منافع للمجتمعات مع سهولة الاستخدام. رغم أن تطبيق تيك توك قد شق طريقه إلى صفوف عمالقة وسائل التواصل الاجتماعي العالمية، فإن صعوده كان مصحوبا ببعض القلق عند الغرب بسبب أصله الصيني وشعبيته بين الأطفال والمراهقين. ومع ذلك، تجنب التطبيق إلى حد كبير الرقابة من خلال اعتبار نفسه "منصة إبداعية" بدلا من كونه موقع تواصل اجتماعي حيث صمم على أساس ميزة رئيسة للمستخدمين تتمثل في المرح والأداء. فتطبيق تيك توك ينظر إليه باعتباره أداة للقوة الناعمة الصينية وهو يعمل على إضافة الطابع الصيني على الإنترنت العالمي مثله في ذلك مثل شركة هواوي، المصنعة لمعدات الاتصالات الصينية والمدرجة في القائمة السوداء للولايات المتحدة. لكن مع ذلك فإن ظهور هذه المنصات خارج الولايات المتحدة يرفع مستويات القلق بشأن الخصوصية واستخدام المعلومات الشخصية لأغراض تجسسية، وهذا ما أصبح يشاع بأن منصة الترفيه التقنية تمثل عميلا مزدوجا إلكترونيا، فهي تمنح فرصة للتلاعب بالرأي العام، والتجسس على غرف نوم المراهقين، وتوجهاتهم، لكن هذا ليس حصرا على تيك توك فقط ولهذا ما يؤيده فعليا، واضطر مارك زوكربيرج الرئيس التنفيذي لفيسبوك إلى التصريح أكثر من مرة بشأن مزاعم تأثير في انتخابات الرئاسة الأمريكية، كما أن اتجاه الهند لحظر تطبيق تيك توك بعد اشتباك حدودي مع الصين، يقدم دليلا آخر على هذه المسألة، وقام مجلس النواب البريطاني بإغلاق حسابه الخاص على منصة تيك توك خوفا من تسرب البيانات. وأمام هذا القلق من التطبيق فإن الشركة الأم لتيك توك، تؤكد أنها شركة خاصة مقرها سنغافورة، وجميع بيانات مستخدميها الدوليين محفوظة في الولايات المتحدة وسنغافورة، وتصر على عدم تدفق أي بيانات شخصية إلى الحكومة الصينية، إضافة إلى أنها لن تمنح بكين إمكانية الوصول إلى هذه البيانات حتى إذا طلبت ذلك. لكن في الوقت نفسه فإن الشركة صينية، والمهندسين أيضا، ويبقى السؤال بشأن قدرة الحكومات وأجهزة الأمن في الوصول إلى المعلومات الخاصة بالمستخدمين في وسائل التواصل الاجتماعي محل نقاش وقد لا يتم نفيه ولا إثباته قريبا.
مشاركة :