القاهرة: «الخليج» في أقصى الجنوب من إيطاليا تقع جزيرة صقلية، التي تسكنها سلالات عبارة عن خليط من شعوب عريقة، فقد استوطنها اليونانيون القدماء، وتركوا فيها مدينتهم، إلى أن استولى الرومان عليها، وتركوا آثاراً هائلة وحكمها البيزنطيون، ثم العرب ثم النورمانديون.وفي أحد بلدان صقلية ولد «لويجي بيراندللو» في 8 يونيو سنة 1867، وفي هذا العام اجتاح صقلية وباء الكوليرا، وكان الوالد يعمل في تجارة الكبريت، فنقل أسرته إلى مكان ريفي بعيد، وظل هو مقيماً في البلدة يزاول أعماله، لكن الوباء عرج إليه لكنه شفي منه.نشأ بيراندللو في مناخ أسري عظيم، وكان يواظب على مواعيد الصلاة في الكنيسة، لكن مشكلته الحقيقية بدأت حين تعارضت رغبته مع رغبة الوالد رجل الأعمال، الذي كان يريد له أن يعمل بالتجارة، وكانت قد ظهرت لديه ميول أدبية، فألّف هو وبعض أصدقائه فرقة مسرحية، وأخذوا يمثلون بعض المسرحيات التي وجدوها في مكتبات أهليهم. انتقلت الأسرة إلى «باليرمو» ثم عادت إلى جيرجنتي «مسقط رأس العائلة»، وبقي بيراندللو هناك مستأجراً غرفة لدى إحدى الأسر، وظل يواصل دراسته، ثم اتجه نحو كتابة الشعر، وبرغم صغر سنه فقد وجد مجلات أدبية تنشر له شعره.ومن باليرمو انتقل إلى روما لكي يُتم دراسته، وكان قد اختلف مع أستاذ اللغة اللاتينية على تفسير عبارة في إحدى المسرحيات، فغادر قاعة الدرس غاضباً، ما عرضه للمساءلة، فنصحه أحد الأساتذة بالذهاب إلى جامعة بوني الألمانية للدراسة.حصل بيراندللو على الدكتوراه من ألمانيا، وعاد إلى مسقط رأسه فوجد «خطيبته» غاضبة، لأنها رأت أن القصائد التي كتبها هناك وُضعت لغيرها، فأدى ذلك إلى القطيعة بينهما وعودته إلى روما، حيث أخذ يتفرغ للتأليف، فكتب أول قصة له بعنوان «الطريدة» بعد أن سكن في فندق فوق جبل عالٍ، سكنه مع جماعة من الرفاق بين مؤلف وفنان، وكان ثلاثة منهم لا يرتدون عادة إلا ملابس الرهبان، ولا ينزلون إلى القرى المجاورة عادة إلا بها، ومنهم بيراندللو.في تلك الأثناء تعرض أبوه للإفلاس للمرة الثانية، ولم يبق أمام بيراندللو إلا أن يعيش يوماً بيوم، فما إن ينتهي من عمله اليومي في الدراسة حتى ينكب على الكتابة، وأخذ يكتب قصصاً قصيرة ومتوسطة الحجم وطويلة، لكنه إلى ذلك الحين لم يقبل على المسرح.وأصيبت زوجته بالجنون، وجاءت الحرب العالمية الأولى لتضيف إليه نوعاً جديداً من الكوارث، فقد جند الابن الأكبر ووقع في الأسر، ومرض الثاني، وتفاقم المرض النفسي بالزوجة، وفي تلك الأثناء سافر بيراندللو إلى باريس، وما إن انتهت الحرب حتى عاد الهدوء إلى بيراندللو.كان الفراغ من حوله، فلم يعد يفكر إلا في الشخصيات التي تنشأ بداخله، ويرى أن يصبها في قصة، لكنه لم يفعل، والآن بعد أن هدأت العاصفة قليلاً، لم يجد لديه الشجاعة ليظل في نضال مستمر، ورأى أن الوقت قد حان ليكتب قصته بدلاً من استمرار التفكير فيها، لكنه لم ينجح في أن يجعل شخصياته تعيش، لم يجد العقدة، كانت تدور في ذهنه باستمرار فكرة المؤلف الذي لم يستطع تحقيق شخصياته على الورق، فيطلقها إلى حيث تستطيع العيش، وأين تعيش إذاً؟ في المسرح، أمام خشبة المسرح وأضوائه؟ ومن تقصد هذه الشخصيات؟.هذه هي قصة مسرحية «ست شخصيات تبحث عن مؤلف» التي عرضت على مسرح «فاللي دي روما» سنة 1921، وأخذ الشباب يصفقون تصفيقاً هائلاً، بينما صاح آخرون «مهرج.. مهرج».. «إلى المجاذيب»، انقسم الجمهور شيعاً ووقف نحو عشرين شخصاً في شرفة يعلنون سخطهم في صوت مرتفع، وتجمع فوق المسرح جمع كبير من الممثلين والصحفيين والنقاد يتحدثون بعد انتهاء المسرحية بنحو نصف ساعة.ولم يستطع بيراندللو الخروج من المسرح إلا بعد أربعين دقيقة، ورأى جموعاً بعضها يهتف له، وبعضها الآخر يشده من ثيابه، إلى أن أنقذه ضابط شرطة من بين أيديهم، ونقلت الصحف في اليوم الثاني أنباء مشاجرات حدثت بين الجمهور، ثم كانت الشهرة والمجد والتكريم، ولفت المسرح أنظار العالم إليه، وترجم إلى كثير من اللغات، حتى حصل على جائزة نوبل سنة 1934، وظل عاكفاً على الكتابة إلى أن أدركته الوفاة عام 1936.
مشاركة :