الحكم على الشخص المعين بأنه كافر أو مشرك لا بد له من توفر شروط وانتفاء موانع، وهذه الشروط وهذه الموانع يختلف حولها دعاة الدين عموماً أثار خبر وفاة عالم الفيزياء «ستيفن هوكينج»، جدلاً واسعاً في مواقع التواصل الاجتماعي حول مشروعية الترحم على غير المسلمين، بنفس السجال الذي احتدم بعد وفاة الممثلة الهندية سريديفي كابور، حيث يرى العديد من دعاة الدين عدم جواز الاستغفار للكفار والترحم عليهم، لأن الله تعالى قد «نهى عباده عن ذلك فقال: {مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَن يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَلَوْ كَانُوا أُولِي قُرْبَىٰ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحَابُ الْجَحِيمِ}». إن مسألة «عدم الترحم على غير المسلم» من المسائل المهمة والخطيرة في المجتمعات الإسلامية، وإن حاول البعض التقليل من أهمية هذه المسألة بالقول بأن هذه الجدلية عقيمة وانشغال بالقشور، ولكنها في الحقيقة تعد من أهم أسباب انغلاق المجتمعات الإسلامية في العالم المعاصر، وهي كذلك أحد أسباب سوء الفهم بين المسلمين والأوروبيين، فبعض المسلمين يتصورون أن الغرب يعيش حياة مادية إلحادية خالية من الإيمان والأخلاق والتدين، والغرب يرى من جهته أن المسلمين لم يفهموا العلم والتكنولوجيا والحياة المدنية، وبالتالي عدم قبولهم للعلم والتطور والحضارة، والدليل على ذلك تعاملهم مع وفاة عالم الفيزياء الشهير ستيفن هوكينج!. كنت قد تحدثت في مقالة سابقة وذكرت أن بعض الدعاة ومشايخ الدين يستندون في الحكم على أن غير المسلمين كفار وهم في النار خالدين فيها، وأن الجنة عليهم حرام، وأنه تعالى لعنهم، ولن يغفر لهم، ونهيه تعالى عن الاستغفار لهم، وبيان أنهم شر المخلوقات، وعلى هذا الأساس، يطلق بعض الدعاة أحكامهم الشخصية على الآخرين ويتهمونهم بالكفر والشرك لمجرد اختلافهم في الدين أو المذهب، فيقولون بأن فلان لا يجوز الترحم عليه أو الدعاء له، وفي المقابل أيضاً، فإنه لا يدخل الجنة إلا من يراه هؤلاء الدعاة من المؤمنين، والإيمان من وجهة نظرهم هو من يكون على نفس الدين أو المذهب. وتكفير الآخر ليس مقتصرا على دعاة الدين المسلمين وحسب، بل نجد ذلك أيضاً في الديانات الأخرى، فالمسيحية تقرر بأن غير المسيحيين ليسوا من أهل النجاة، وكذلك اليهودية والتي تطلق على غير اليهودي مصطلح الأمي أو الأغيار، وفي هذا الصدد يقول الفيلسوف جان جاك روسو في انتقاده للمسيحية «كل واحد يرى الحق في شريعته وفي شرائع باقي الأمم مجرد سخافات، إذًا شرائع الآخرين، رغم غرابتها، ليست شاذة كما نعتقد، أو ما نراه معقولاً في شريعتنا لا يشكل حجة على غيرنا». وعلى هذا الأساس، فقد تحركت الكنيسة في وقتنا المعاصر نحو تجديد الخطاب الديني وتعديل الفكر الديني الحاكم على الذهنية المسيحية، وإلغاء الفكر الذي كان يقرر أن المسيحيين وحدهم هم من أهل النجاة، ولهذا أعلنت الكنيسة (الفاتيكان) رسمياً أن المسلمين هم موحدون وملتزمون بالأصول الأخلاقية التي جاء بها الأنبياء والرسل ويعتقدون بالمعاد ويوم القيامة ويتحركون في خط الإيمان ورسالة الأنبياء، وبذلك طرحت الكنيسة خطاباً جديداً يستحق الإصغاء والاهتمام.. فلماذا لا يقوم المسلمون اليوم بنفس هذه الخطوة لكي يسمعهم العالم ويصغي إليهم؟. لنأخذ على سبيل المثال «ستيفن هوكينج» كنموذج للعالم الملحد، وهو في الحقيقة لم ينكر وجود الله تعالى على الإطلاق، والحقيقة أن هذا العالم الشهير كان ينتقد الدين في قاموس المسيحية والذي له ولد باسم المسيح، أو عن الدين المتحيز إلى جانب فئة معينة ضد الأقوام البشرية الأخرى، أو الدين في مفهوم الفلاسفة، كما أن هذا العالم له مواقف وتضحيات في سبيل الدفاع عن الضعفاء والمساكين وحقوق الإنسان، بالإضافة إلى إنجازاته العلمية التي استفادت منها البشرية جمعاء، فهو رغم عدم التزامه الديني بالمفهوم السائد، إلا أنه يعيش الإيمان والإسلام الحقيقي في قلبه وسلوكياته، ويتحرك بدوافع إلهية قلما نجدها لدى الملتزمين دينياً. بالإضافة إلى ما سبق، يرى العديد من دعاة الدين المسلمين أن الحكم بالكفر أو الشرك هو حكم مرده إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وسلم، وليس مرده إلى رغبات الناس وأهوائهم، والحكم على الشخص المعين بأنه كافر أو مشرك لا بد له من توفر شروط وانتفاء موانع، وهذه الشروط وهذه الموانع يختلف حولها دعاة الدين عموماً، وبالتالي يصعب إطلاق مثل هذه الأحكام على غير المسلمين. لنتأمل قول الله تعالى: {وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلم يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق يغفر لمن يشاء ويعذب من يشاء ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما وإليه المصير}، وفي هذه الآية تأكيد على أن اليهود والنصارى خلق مثل سائر البشر، إن أحسنوا كان جزاؤهم خيراً، وإن أساؤوا كانت إساءتهم شراً، فإلى الله المرجع، يحكم بين عباده، ويجازي كلا بما يستحق، وهذا ما ينطبق على سائر الناس جميعاً. وكما رأينا آنفاً فإن مفهوم الكفر ومسألة (التكفير) ليست بالأمر السهل، فإذا كان إطلاقه على غير المسلمين فيه نظر، وقد ورد في الحديث النبوي الشريف: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده»، ويفهم من هذا الحديث أن الإنسان الذي سلم الناس من لسانه ويده وعاش الحب لله ثم الإنسانية، وسعى في مساعدة الفقراء والمساكين ونصرة المظلومين فهو مسلم في الحقيقة، وغير المسلم في واقعه الذي يتعرض للناس بالأذى والعدوان بيده ولسانه وإن جرت عليه أحكام الإسلام المذكورة في كتب الفقهاء.. فهل يمكن أن يتبنى الخطاب الديني السائد مثل هذه المفاهيم، ويقول المسلمون كلمتهم في الساحة العالمية؟
مشاركة :