لقد شغلت التساؤلات الكبرى حول أصل الحياة وغاياتها ومآلاتها العقول، مثل وجود الله تعالى، والحياة بعد الموت، ووجود معنى للحياة، ومعيار للصواب والخطأ، وإثبات الإرادة للإنسان، والعلاقة بين الدين والعلم الطبيعي، ونحو ذلك.وقد أرسى الأنبياء دعائم الإيمان بالله، والارتقاء بالإنسان كونه كائناً مكلفاً، مسؤولاً عن أقواله وأفعاله، مأموراً بالخير، منهياً عن الشر، وزخرت سيرة الأنبياء بدعوة الناس لعبادة الله تعالى، والنهي عن الغش والتطفيف والشذوذ والعدوان والظلم وأكل المال بالباطل، وبيان ما يترتب على ذلك من الثواب والعقاب، والعناية بسعادة الإنسان وراحة نفسه وانشراح صدره، في منظومة متكاملة، تهدف إلى بناء إنسان صحيح المعتقد، كريم الأخلاق، هانئ العيش، طامح للخير والعطاء. ومما ارتكزت عليه هذه المنظومة الإيمانية التفكر في الخلق والكون، وما في ذلك من الآيات الدالة على عظمة الخالق، كما قال سبحانه: {قل انظروا ماذا في السماوات والأرض}، وقد وردت كلمة الآيات في القرآن الكريم للدلالة على الآيات الشرعية، وهي القرآن الكريم، والآيات الطبيعية، وهي ما بثَّه الله في السماوات والأرض، والمؤمن مأمور بالتفكر في هذه الآيات وتلك، في علاقة انسجام ووئام بين نظره في الكتاب السماوي، وتأمله في العلم الطبيعي. إن هذا التوافق بين الدين والكون هو أساس متين من أسس الإيمان، كما أن ذلك ركيزة أساسية من ركائز النهضة العلمية، فلا قوام للعلم إلا بالإيمان بتناسق العالم وصيرورته، وفق قوانين منتظمة، كما قال الفيزيائي المشهور أينشتاين: «لا يمكن أن يكون هناك علم من دون الإيمان بوجود تناسق داخلي للعالم». ومع زيادة وتيرة الاكتشافات والتطور العلمي في العصر الحديث ازدادت أنوار الإيمان بالله سطوعاً، وازداد الخناق حول الإلحاد، وأصبح أصحابه أكثر حيرة واضطراباً، فقد تبحر الفيزيائيون، فاكتشفوا نشأة الكون وتطوره، وأنه محكوم بثوابت كونية منضبطة بدقة متناهية، وفق قيم مناسبة تماماً لوجود الحياة، وقد أبهر هذا الإتقان حتى الملاحدة، الذين اعترفوا بذلك، ولم يجد بعضهم بُداً فراراً من إثبات الخالق من اللجوء للافتراضات البعيدة، وما تستحيل ملاحظته، قال ريتشارد دوكينز: «إذا اكتشفت هذا الكون المدهش المُعد فعلياً بعناية فإنني أعتقد أنه ليس أمامك إلا تفسيران اثنان: إما خالق عظيم وإما أكوان متعددة»، ورجح التفسير الثاني، وناقشه مع الفيزيائي ستيفن واينبرغ، الذي أبدى انزعاجه من ضعف هذا الاحتمال، مع أنه لو ثبت حقاً فإنه لا ينفي وجود الخالق أصلاً، كما أن إثبات الخالق لا يسد الطريق أمام البحث العلمي، واكتشاف أسرار الكون والطبيعة. وكذلك في ما يتعلق بعلم الأحياء، وخصوصاً مع تطور علم الأحياء المجهرية، التي أظهرت مدى تعقيد النظم الكيميائية الحيوية، ومع سقوط فرضية التوالد التلقائي أصبح الأمر أكثر تعقيداً بالنسبة للملاحدة، ونجد المنحى نفسه من اللجوء للمستحيلات في ما يتعلق بأصل الحياة فراراً من إثبات الخالق، قال العالم البيولوجي جورج والد: «عندما يتعلق الأمر بأصل الحياة فهناك احتمالان فقط: الخلق أو توليد تلقائي، وليس هناك طريقة ثالثة، وقد تم دحض التوليد التلقائي قبل مائة سنة، وذلك يقودنا إلى استنتاج واحد فقط، وهو خلق خارق، ولا يمكننا أن نقبل ذلك على أسس فلسفية، لذلك نختار أن نصدق المستحيل: إن الحياة نشأت تلقائياً عن طريق الصدفة»! وأما في ما يتعلق بالحريات ففي الوقت الذي يرفع فيه الإيمان قيمة الإنسان، كونه كائناً عاقلاً حراً مكلفاً نجد أن الإلحاد يهبط به إلى مستوى الآلات الجامدة والأحجار الصماء، حتى صرح بعضهم قائلاً: «يبدو أننا لسنا أكثر من آلات بيولوجية، وأن الإرادة الحرة مجرد وهم»، وقال بعضهم: «لا يمكن أن يكون الإنسان مسؤولاً أمام الله أكثر من مسؤولية حجر أصم عن حركاته»، وإذا كان الإنسان من منظور الإيمان مأموراً بالخير والشر محاسباً على ذلك، فإنه من منظور الإلحاد مطلق العنان، لفعل ما يشاء دون حساب ولا جزاء، وفي هذا الإطار تنهدم القيم الأخلاقية، وتصبح أي رذيلة أو عدوان مقبولاً لتحقيق منفعة هذا الفرد أو مصلحة ذلك الجنس. وكذلك في ما يتعلق بمعضلة الشر فإذا كان الدين يتعامل مع هذه القضية، وفق الإيمان بحكمة الله تعالى، والإيمان بالحياة الأخرى، التي يتجلى فيها كمال عدله سبحانه، فإن الإلحاد يرسم صورة سوداوية مظلمة للحياة، ينتفي معها أي معنى للعدل أو الرحمة. لقد سَما الإيمان بالإنسان إلى آفاق الطمأنينة والسلام النفسي، ليكون في علاقة انسجام ووئام في علاقته مع الله تعالى وعلاقته مع الخلق والكون، وفق منظومة إيمانية وفكرية وبحثية متناغمة. * كاتب إماراتي طباعة Email فيسبوك تويتر لينكدين Pin Interest Whats App
مشاركة :