بغض النظر عن الاتفاق العام بين الاقتصاديين حول منافع الهجرة الداخلة، فإن نظرية التوازن الجزئي شائعة لدى الرأي العام. ولا يمثل هذا الشيوع رد فعل متفردا أو منعزلا بالكلية. بل إن كثيرا من الشكوك المحيطة بالهجرة تحمل في طياتها شبها لافتا بالآراء المشككة في مزايا التجارة. ومن يحاولون منا تكوين فهم لاقتصاديات الهجرة بغية الخروج باقتراحات للسياسات ذات الصلة عليهم التفكير في الرؤى المتطابقة بشأن الهجرة والتجارة. فأولا، على غرار التجارة، حتى إذا كانت الهجرة الداخلة تحقق منافع صافية لاقتصاد ما، فقد يترتب عليها فائزون وخاسرون. ثانيا، مثلما تؤدي التجارة بمرور الوقت إلى التخصص وفقا للميزة النسبية، فقد يستغرق الأمر وقتا حتى تترسخ الآثار الديناميكية للهجرة، لأنها تعتمد على تكيف منشآت الأعمال. ومن ثم فقد يكون الخاسرون كثر لفترة من الوقت. ثالثا، مثلما هو الحال مع ظاهرة تحويل التجارة، قد تحتاج العمالة المحلية إلى تعديل أدواتها أو الانتقال إلى موقع آخر كي تصبح من المستفيدين من الهجرة. رابعا، وربما الأكثر ارتباطا بالوضع الراهن حيث نشهد تغيرات كثيرة في الاقتصاد العالمي، أن العمالة قد لا تكون قادرة على تمييز التغيير المسؤول عن تراجع مستوياتها المعيشية. وقد توصلنا إلى المفارقة القائمة في هذا الصدد؛ فبينما نجد أن الجدل السياسي في الولايات المتحدة وأوروبا يلقي على عولمة التجارة بكثير من اللوم لما نشهده من تباطؤ في نمو الأجور وتزايد في فقدان الوظائف، نظن أن كثيرا من هذا الزخم يأتي في الحقيقة من الآثار الشديدة الباقية منذ الأزمة المالية العالمية ومن الحوافز المستمرة للتغير التكنولوجي الموفر للعمالة. ومن ثم فرسالتي هي كالتالي: إن للهجرة منافع اقتصادية مثبتة. ولكن مثلما هو الحال في النقاش الأوسع حول العولمة، علينا أن ندرك أيضا ضرورة بذل جهد أكبر فيما يتعلق بالهجرة، ولا سيما لتكوين صورة أوضح عمن قد يتضرر منها ــ وكيف يمكننا تخفيف هذا الأثر. وإذ نستعرض ما استخلصناه من الأبحاث والتجارب المتعلقة بالهجرة، علينا توخي الحرص في تحديد ما يصدق في النظرية، وما يبدو أنه يصدق في الواقع العملي، وما مدى ثقتنا فيما نستخلصه من استنتاجات. وكما حدث في المناقشة المتعلقة بعولمة التجارة، ينبغي أن نسعى لإلقاء الضوء على موضوع الهجرة حتى نقدم الإرشاد المطلوب لصناع السياسات في المهام التي يضطلعون بها. ولكن كما حدث في النقاشات المعنية بالتجارة، ينبغي أن نكون صريحين أيضا بشأن الفائزين والخاسرين، والفترات الانتقالية، واحتياجات إعادة التدريب ونقل الموقع، والآثار على المالية العامة وبرامج الرعاية الاجتماعية. وعلينا أن نكون صريحين في الأساس بشأن السياسة. وتنطبق هذه النصيحة على الأكاديميين الذين يبحثون في التغيرات السريعة التي جلبتها الهجرة في هذا القرن، كما تنطبق على الحكومات التي تسعى جاهدة لمواجهة تحديات السياسة المترتبة على تدفق المهاجرين. وهي تنطبق بلا شك على عمل صندوق النقد الدولي. وقد بذل الصندوق جهدا كبيرا في دراسة الأثر الاقتصادي للهجرة خلال السنوات الأخيرة، وكذلك الانعكاسات على البلدان "المرسلة" في أوروبا الشرقية. وهذا عرض موجز للاستنتاجات التي توصلنا إليها بشأن البلدان المستقبلة. تتفق نتيجة دراساتنا مع الرأي القائل إن الأثر الاقتصادي للهجرة في البلدان المستقبلة إيجابي بوجه عام. فعلى سبيل المثال، وجدنا أن الهجرة الداخلة أدت إلى زيادة كبيرة في نصيب الفرد من إجمالي الناتج المحلي في الاقتصادات المتقدمة ــ لأن المستويات المهارية وأوجه التكامل يعززان إنتاجية العمالة، ولأن توافد المهاجرين في سن العمل إلى بعض الأماكن يساعد على مواجهة نقص العمالة الناشئ عن التطورات الديموغرافية. ونخلص أيضا إلى أن الهجرة تحقق مكاسب لكل مستويات الدخل، وإن كان أكثر المستفيدين هم من يقعون ضمن شريحة الدخل التي تمثل أعلى 10 في المائة. وإضافة إلى ذلك، لا تحدث زيادة في عدم المساواة نتيجة لدخول المهاجرين إلى سوق العمل. وأخيرا، نخلص إلى عدم وجود آثار سلبية كبيرة في مجموعات الدخل الوسطى أو الدنيا في البلدان المستقبلة. وكل هذه نتائج دراسات تجريبية، ومن ثم فهي تقوم على المعلومات المتوافرة حتى الآن. وعلينا ــ وعلى غيرنا من الباحثين ــ أن نكون مستعدين لإعادة النظر في استنتاجاتنا مع تراكم التجارب، خاصة حيثما توجد تدفقات ضخمة جديدة في أوروبا. وينبغي أن نواصل إعادة النظر في استنتاجاتنا وبحث قضايا أخرى جديدة: فعلى سبيل المثال، خلصنا إلى أن المهاجرين سواء أصحاب المهارات العالية أو المحدودة يمكن أن يكونوا سببا في رفع إنتاجية العمالة في البلدان المستقبلة. فمن الواضح أن المهاجرين ذوي المهارات العالية يثرون سوق العمل بما لديهم من معرفة، ويعززون الابتكار، ويساعدون على رفع إنتاجية نظرائهم من العمالة المحلية. أما المهاجرون أصحاب المهارات المحدودة فيمكنهم رفع الكفاءة عن طريق شغل الوظائف التي لا تقبل عليها العمالة المحلية... يتبع.author: ديفيد ليبتونImage:
مشاركة :