في عالم من سلاسل القيمة المعقدة، من الصعب التنبؤ بدقة بتأثير تعريفة الواردات، لكن يمكننا أن نؤكد تضرر بعض الشركات والعاملين في البلدان التي تفرض الحمائية، والتأثير الصافي سيكون سلبيا. وبدلا من محاولة كبح التقدم، ينبغي أن تسعى السياسات العامة إلى تسهيل التكيف للعمال المسرحين. والتمييز بين فقدان الوظائف الناتج من التجارة والتكنولوجيا ليس له أهمية عند تصميم شبكات الأمان لمساعدة العاملين والمجتمعات المتأثرة بالتغيير. وهناك بعض الاقتصادات المتقدمة التي تكيفت مع قوى العولمة بصورة أفضل من غيرها. ففي ألمانيا، على سبيل المثال، وبسبب الضريبة التصاعدية وشبكة الأمان القوية، لم يطرأ أي تغير يذكر على عدم المساواة مقيس بمعامل جيني المحسوب بعد الضرائب والتحويلات. وشهدت الولايات المتحدة، من ناحية أخرى، ارتفاعا كبيرا في عدم المساواة لأن السياسة العامة أدت إلى تفاقم اتجاه السوق نحو استقطاب الوظائف والأجور من خلال التخفيضات الضريبية التنازلية. يتضح من الإحصاءات الرسمية أن نحو 80 في المائة من تجارة العالم تتألف من سلع مصنعة ومنتجات أولية، مثل الأغذية والزيوت والمعادن، والنسبة المتبقية 20 في المائة تتألف من خدمات، مثل السياحة، والتعليم الجامعي في الخارج، والتمويل الدولي. ولم تتغير هذه النسبة إلا بصورة طفيفة على مدى 40 عاما. ويبدو المشهد مختلفا تماما عندما يتحول التحليل إلى القيمة المضافة في التجارة. وارتفعت نسبة الخدمات في التجارة، عند قياسها على أساس القيمة المضافة، بما يزيد على الثلث في الفترة من 1980 إلى 2009 من 31 إلى 43 في المائة. ويعني ذلك أن عنصر الخدمات في التجارة كان آخذا في التزايد. ويعكس جزء من هذا الارتفاع تزايد استخدام البرمجيات. علاوة على ذلك، تنطوي إدارة سلاسل العرض العالمية على الاعتماد بدرجة أكبر على خدمات مثل النقل والتمويل والتأمين. وهناك عامل أخير يشير إلى ارتفاع أسعار الخدمات، بينما تراجعت أسعار الصناعات التحويلية بسبب نمو إنتاجية القطاع بوتيرة أسرع. وتزداد نسبة الخدمات في التجارة في كل الاقتصادات الكبرى عند قياسها على أساس القيمة المضافة مقارنة بإجمالي القيمة. وعلى مستوى 34 اقتصادا من أعضاء منظمة التعاون والتنمية في الميدان الاقتصادي، تسهم الخدمات بنحو نصف القيمة المضافة في الصادرات. وتصل النسبة إلى نحو 40 في المائة في اقتصادات الأسواق الصاعدة المندمجة بصورة جيدة في سلاسل القيمة العالمية، مثل المكسيك والصين وفيتنام وتايلاند. إضافة إلى ذلك، تستخدم الاقتصادات المتقدمة كثيرا من الخدمات المستوردة في سلاسل إنتاجها. وينطبق ذلك بدرجة أقل على اقتصادات البلدان النامية والاقتصادات الصاعدة لأنها غالبا ما تفرض قيودا أكبر على وارداتها من الخدمات وعلى الاستثمار الأجنبي المباشر في مجالات الخدمات. وتبين من بحوث أجريت أخيرا أن الاستفادة من الخدمات المستوردة تعزز صادرات اقتصادات الأسواق الصاعدة من السلع المصنعة، لأن الحصول على أفضل المدخلات في العالم يحسن الإنتاجية. إن ظهور سلاسل القيمة العالمية لا يغير نظرية التجارة من أساسها، لكنه يعكس صورة أعقد. وتفكيك عملية الإنتاج يمنح فرصا جديدة للاندماج بين الاقتصادات الغنية والفقيرة، مع احتمالات تحقق منافع لكل مجموعة منهما لكن إلى جانب العمل في الداخل. تحدثت عن بعض اقتصادات الأسواق الصاعدة المندمجة بعمق، لكن هناك أجزاء كبيرة من العالم النامي متروكة وراء الركب. فالعولمة كالقطار السريع، إذ يتعين أن يكون لديك رصيف لكي يتوقف القطار عندك. وبناء الرصيف يقتضي توفير كل العناصر الأساسية التي تعتمد عليها الأسواق: سيادة القانون والبنية التحتية والتعليم والرعاية الصحية. فالاقتصادات النامية واقتصادات الأسواق الصاعدة التي حققت نجاحا وإن كان محدودا نجحت في تحقيق النمو الاقتصادي والحد من الفقر بصورة مدهشة. وتواجه البلدان الغنية تحديا مماثلا فالتكامل والابتكار يحفزان التغير في الوظائف والأجور، ما يوجد فائزين وخاسرين. ومن الأمور المغرية استخدام الحماية في محاولة لإبطاء وتيرة هذه التغيرات أو عكس مسارها، لكن العزلة الكاملة تجعلك منقطعا تماما عن الاقتصاد العالمي الديناميكي، والحماية الجزئية تعود بالمنفعة على بعض الشركات على حساب شركات أخرى، بينما هي أيضا تضر بالمستهلكين. ومع تعقد سلاسل القيمة الحديثة، لا يمكن ضبط السياسة التجارية بدقة لمساعدة منطقة جغرافية معينة أو مجموعة محددة من العاملين. وسيكون من الأفضل التركيز على تسهيل التكيف مع تطور الإنتاج والوظائف بصورة طبيعية. والأمر في حالة البلدان الغنية والفقيرة سواء، فالتجارة الحرة هي السياسة الأفضل. لقد وصل العالم إلى مستوى معقول من التجارة الحرة في الصناعات التحويلية، على الأقل حتى ظهور موجة الحمائية أخيرا، ولكن هناك قيود أكبر على التجارة والاستثمار في الخدمات، خاصة في العالم النامي. ونظرا لتزايد دور الخدمات في الإنتاج وسلاسل القيمة، فمن المنطقي أن تكون هي محور التركيز التالي لعملية التحرر.
مشاركة :