كل الدولة الفرنسية كانت أمس حاضرة في باحة قصر الأنفاليد: رؤساء الجمهورية «الحالي مع رئيسين سابقين» والحكومة والنواب والشيوخ والوزراء كافة وما لا يقل عن 300 نائب والقيادات العسكرية وكبار الموظفين والحرس الجمهوري وموسيقى الجيش ومئات من المواطنين جاءوا منذ الصباح للمشاركة في تكريم الكولونيل في سلك الدرك الوطني أرنو بلترام الذي ضحى بحياته من أجل إنقاذ عاملة في المتجر حيث ارتكب الفرنسي - المغربي رضوان لقديم، يوم الجمعة الماضي، فصلاً من أعماله الإرهابية. بلترام الذي لف نعشه بالعلم ثلاثي الألوان، وشح بجوقة الشرف من رتبة قائد، أخذ مكانه، كما جاء في تأبين الرئيس إيمانويل ماكرون له، إلى جانب أبطال فرنسا ذاكراً منهم جان دارك التي حاربت الإنجليز وجان مولين بطل المقاومة ضد الغيستابو الألماني وشارل ديغول محرر فرنسا من جيوش هتلر... على طول الطريق التي قادت إلى باحة الأنفاليد، كانت علامات التأثر بادية على الأوجه. وفي الباحة نفسها كان الصمت سيد الموقف. كاتدرائية نوتردام قرعت أجراسها. الشرطة والدرك والحرس الجمهوري أدت التحية العسكرية والآلاف من الباريسيين وغير الباريسيين كانوا قد اصطفوا على الأرصفة، الأمر الذي يعكس مدى التأثر الذي تسببت به العملية الإرهابية الأخيرة. منذ أن عرفت تفاصيل ما حصل في متجر السوبرماركت في مدينة تريب «جنوب غربي فرنسا» وقبلها في مدينة كاركاسون المجاورة، ارتفعت هامة أرنو بلترام فرق الجميع لأنه، كما قال ماكرون، أصبح «بطلاً فرنسياً» يجسد «روح المقاومة الفرنسية» ولكن هذه المرة بوجه «الاعتداء الإسلاموي والحقد والجنون المميت»، بحسب ما قال. وفي إشارة إلى الإرهاب الذي يضرب فرنسا منذ سنوات وأوقع منذ 2015 أكثر من 241 قتيلاً ومئات الجرحى، أعلن ماكرون أن «معسكر الحرية، وأعني معسكر فرنسا، يواجه اليوم الظلامية الهمجية التي لا برنامج لها سوى القضاء على حرياتنا وعلى تضامننا بينما تلحفها بالدين ليس سوى رداء فارغ من كل محتوى روحي لا بل إنه نفي للروح». وهنا جمع ماكرون بين العملية الإرهابية ليوم الجمعة الماضي التي أوقعت أربعة قتلى و15 جريحاً وبين قتل امرأة يهودية طاعنة في السن في باريس على يد شخصين لم تكن حتى الأمس قد كشفت هويتهما. لكن الادعاء العام اعتبر أن جريمتهما «معادية للسامية». وبحسب المعلومات المتوافرة، فإن ميراي كنول «اسم الضحية اليهودية» كانت تعرف أحدهما وهو هامشي كان يتردد على شقتها القائمة قرب مبنى أوبرا الباستيل في باريس. وعصر أمس شهدت شوارع باريس مسيرة حاشدة للتنديد بالجريمة ورفض اللاسامية. واعتبر الرئيس ماكرون أن اغتيال امرأة يهودية ومقعدة هو اغتيال «لقيمنا المقدسة ولذاكرتنا». لم تعد الحرب على التطرف والراديكالية الإسلاموية، وفق الرئيس الفرنسي، حرباً ضد «داعش» أو التنظيمات الإرهابية الأخرى أو حتى أيضاً الأئمة الذين «ينشرون الحقد» على الأراضي الفرنسية، كما قال، بل هي تشمل كذلك «الإسلامية التحتية» التي تنمو بفضل الشبكات الاجتماعية وتتقدم بشكل خفي... إنه عدو ماكر ما يتطلب من كل فرد مزيداً من اليقظة والتحلي بروح المواطنة. لكن ماكرون، كما أضاف، واثق من أن فرنسا «سوف تنتصر» خصوصاً بفضل «الانسجام الوطني». إذا كانت مهابة الموقف في باحة الأنفاليد قد أعطت انطباعاً بأن الطبقة السياسية الفرنسية بمختلف مشاربها قد وضعت خلافاتها جانبا وقررت أن تعمل كرجل واحد، فإن هذا الانطباع وهمي تماما. ذلك أن الانقسامات السياسية ظهرت على حقيقتها في الأيام الأخيرة لا بل إنها تعمقت فيما الرغبة في استغلال الصعوبات التي يواجهها العهد والحكومة عادت لتتقدم على غيرها من الاعتبارات. ولذا، فإن إشارة ماكرون إلى «الانسجام الوطني» في كلمته أمس يرجح أن تبقى أمنية بعيدة المنال لأن السكاكين السياسية شحذت. وأول من بادر إلى ذلك اليمين بجناحيه المتطرف والكلاسيكي وهو يرى أن الفرصة قد سنحت لاستعادة الشعبية التي خسرها في الانتخابات الأخيرة بسبب ماكرون ورؤيته التي «تخطت اليمين واليسار». وما حفّز اليمين على الإسراع في الانقضاض على الحكومة هو أن مواضيع الإرهاب والهجرة والإسلام هي الأسس التي بنى عليها دعايته السياسية والتي يرى فيها السلاح الأمضى لمهاجمة ماكرون واتهامه بالسذاجة السياسية والمزايدة على ما قامت به حكومة إدوار فيليب من استصدار قانون بالغ التشدد يستعيد الكثير مما يتيحه العمل بحالة الطوارئ. يضاف إلى ذلك الصعوبات التي تلاقيها الحكومة في الأسابيع الأخيرة وتكاثر الإضرابات «شملت الموظفين في قطاعات الدولة، وعمال السكك الحديد، والطلاب...» والنقمة التي عبّر عنها المتقاعدون بسبب سياسة ماكرون الاقتصادية والضريبية. كل ذلك يرى فيه اليمين بجناحيه واليسار المتشدد أولى علامات ضعف العهد والحكومة ويدفعه إلى الإسراع في استغلالها. إلا أن رئيس الحكومة إدوار فيليب استغل جلسة البرلمان عصر أول من أمس للرد على رئيس حزب «الجمهوريين» «اليمين الكلاسيكي» وعلى مارين لوبان «زعيمة اليمين المتطرف» اللذين طالبا باحتجاز الأشخاص الموجودة أسماؤهم على لائحة «الأشخاص الخطرين» «المعروفة باسم لائحة S» وإلى طرد الأجانب منهم من غير المرور بالقضاء. وأهم ما قاله فيليب، في رده، أنه نعم، يتعين احتجاز الإرهابيين ولكن هذا يعود أمره للقضاء الذي وحده يقرر. نعم يتعيّن طرد الأجانب الذين يشكلون خطراً على النظام العام ونحن نقوم بذلك». ووصف فيليب الذين يوهمون الناس بأنه كان بالإمكان تلافي العملية الإرهابية في مدينة تريب بـ«الخفة» وبـ«تحمل مسؤولية كبرى» لكونهم يتلاعبون بعقول الناس.
مشاركة :