هناك مثلٌ شعبي مصري عريق يقول ما معناه «من يقحم نفسه فيما لا يعنيه لا بد أن يسمع ما لا يرضيه»! مجلس النواب الموقر في جلسته بالأمس برئاسة معالي السيد أحمد الملا قد زج بنفسه في أمر انقسم من حوله السادة النواب انقساما حادا.. وتحولوا إلى فريقين متضاربين.. ذلك عندما أراد المجلس أن يعطي نفسه حق فرض تشريع على السلطة القضائية فرضا هي لا تريده ولا تحتاجه، يُفرض على ذوي المقاعد الجليلة من السادة القضاة فرضا.. وذلك من خلال أنه يشترط على عضو السلطة القضائية الموقرة الراغب في الترقية أن يجتاز دورتين تدريبيتين كاملتين في التخصص القضائي المنخرط فيه. المشروع نبع من مجلس النواب عندما تطوّع عددٌ من السادة النواب به في صورة اقتراح بقانون تم رفعه إلى الحكومة الموقرة التي وضعته في صورة مشروع قانون.. ثم أعادته إلى مجلس النواب الذي عرضه على لجنة الشؤون التشريعية والقانونية بمجلس النواب، وهي التي أعدّت من حوله تقريرا أوصت في نهايته برفض هذا المشروع!! فريق السادة النواب المنحاز إلى هذا المشروع والرافض لتوصية اللجنة التشريعية القاضية بالرفض هاج أفراده وماجوا وقالوا: نحن السلطة التشريعية ومن حقنا أن نشرع لأي جهة أو أي سلطة كانت بما فيها السلطة القضائية.. بل إن هذا من واجبنا.. وأهدافنا في ذلك هي أهداف وطنية نبيلة ومقتضاها سنّ التشريع الذي يضمن التطوير للقائمين على واحد من أهم وأقدس المرافق في الدولة وهو مرفق القضاء. وقالوا: إن هذا المشروع المقترح بتعديل بعض أحكام قانون السلطة القضائية يهدف إلى منح السادة القضاة حقوقهم وفق معايير عادلة تحقق فيما بينهم المساواة في ظل الحقوق الاستراتيجية التي تبنى على الترقيات ويترتب عليها تحريك مستقبلهم إلى أعلى وتحفيزهم نحو إنجاز خدمة العدالة -وهي من أهم الخدمات والحقوق بالنسبة إلى الجميع- وعلى وجه السرعة.. وإلى آخر ما قالوا. والرافضون لهذا المشروع.. والمؤيدون لتوصية لجنة الشؤون التشريعية والقانونية بالمجلس قالوا ما هو أكثر وأشد وأقوى، وما هو أقرب إلى تصديقه والاقتناع به.. قالوا: إن القضاء مرفق مستقل.. وإن هذا التشريع المقترح فيه مساس باستقلاليته، وخاصة أن السلطة القضائية لم تطلب مثل هذا التشريع.. وأنه يراد به فرضه عليها فرضا. وقد انضم إلى هذا الفريق كلٌ من سعادة السيد غانم البوعينين وزير شؤون المجلسين والشيخة نورة آل خليفة المستشارة بمكتب وزير العدل والشؤون الإسلامية.. وأكدوا مع الرافضين أن هذا القانون الذي يريد أصحابه من السادة النواب أن يفرضوه على السلطة القضائية متحقق على أرض الواقع فعلا.. حيث يقرر قانون السلطة القضائية (8) معايير أو شروط واضحة لترقية القضاة، من بينها المعيار الثامن الذي يتحدث عن شرط التدريب واجتياز دورات تدريبية.. وهناك معهد تدريب القضاة.. وهناك أيضا جهاز التفتيش القضائي الذي يقوم بأهم دور في ترقية القضاة والسعي نحو رفع الكفاءة والتطوير القضائي بصفة عامة ودائمة. ثم.. وأهم من هذا كله.. أن هذا المشروع بقانون قد عرض على المجلس الأعلى للقضاء وتم رفضه رفضا قاطعا. الجدير بالذكر أن الوزير غانم البوعينين قد تبنى رأي الحكومة إزاء هذا المشروع بقانون، المراد فرضه على السلطة القضائية، وهو الرافض بقوة لهذا المشروع.. حيث شرح موقف الحكومة بالتفصيل خلال الجلسة. وقد تحدث في هذا الأمر كلٌ من السادة النواب: عبدالحميد النجار – الشيخ ماجد الماجد – جمال داود – محسن البكري – محمد المعرفي – أحمد قراطة – محمد الأحمد – محسن البكري – الدكتور مجيد العصفور – محمد ميلاد – والدكتور علي بوفرسن - وعباس الماضي.. وكان على رأس المؤيدين للمشروع والرافضين لتوصية لجنة الشؤون التشريعية والقانونية بالمجلس كلٌ من: النائب أحمد قراطة – والنائب محمد الأحمد. المهم أنه عند طرح هذا المشروع للتصويت انتصرت آراء الأغلبية من السادة النواب الذين صوتوا بالموافقة على رفض المشروع وإحالته مرفوضا إلى مجلس الشورى! وكما أكدنا من قبل، فإن آلية الاقتراحات بقوانين التي يمارسها السادة النواب.. وهي واحدة من أهم الآليات التشريعية والدستورية لأنها تعبر عن صلب الدور الذي يمارسه ويختص به المجلس والنواب، وهو دور التشريع الذي ينبع من السلطة التشريعية ذاتها.. لكن استخدام هذه الآلية التشريعية في الأعم الأغلب تحقق الأهداف الأصيلة لمجلس النواب.. ولكنها قد تخيب أحيانا في تحقيق الأهداف.. وذلك عندما يكون هناك اقتراح بقانون متحقق على أرض الواقع.. أو عندما يحاول السادة النواب زرعه في غير أرضه أو غير موضعه، مثل هذا المشروع بتعديل بعض أحكام السلطة القضائية. لكن الحق يجب أن يُقال إنه ليس صحيحا أن مثل هذا التشريع يجيء تدخلا في شؤون السلطة القضائية أو مساسا باستقلاليتها.. لأن مجلس النواب هو السلطة التشريعية ومن حقه بل ومن صلب اختصاصه أن يشرِّع للسلطتين التنفيذية والقضائية لكن بشرط التنسيق والتعاون والتوافق معهما.. وكل ما يمكن أن يعيب هذا التشريع المرفوض هو أنه متحقق فعلا على أرض الواقع لدى السلطة صاحبة الشأن نفسها.. وأنه يراد به أن يفرض فرضا على السلطة القضائية وهي التي رفضته من خلال مجلسها الأعلى.. كما هو الذي تم رفضه بشدة من خلال ممثلة السلطة القضائية في جلسة مجلس النواب بالأمس المستشارة الشيخة نورة آل خليفة.. ورفض بالقوة نفسها من خلال الحكومة وممثلها في الجلسة الوزير الهُمام سعادة السيد غانم البوعينين.. وما يجب أن يُقال في نهاية هذا المقال إن جميع النوايا كانت طيبة.. ولنا عودة.
مشاركة :