أصبحت الشفافية مفهوماً رئيساً يرتبط بشروط النظام الديمقراطي، وتحولت إلى ثابت رئيس من ثوابت الحوارات والمقالات التي تعالج المسألة السياسية. كالمطالبة باقتصاد شفاف وبإعلام شفاف. وبسياسات شفافة وبتنمية شفافة... ويجمع العالم الحر اليوم على أن الشفافية تقوم على التدفق الحر للمعلومات وهي تتيح للمعنيين بمصالح ما أن يطلعوا مباشرة على العمليات والمؤسسات والمعلومات المرتبطة بهذه المصالح، وتوفر لهم معلومات كافية تساعدهم على فهمها ومراقبتها. وتزيد سهولة الوصول إلى المعلومات درجة الشفافية، ولكي تكون المؤسسات المستجيبة لحاجات الناس ولمشاغلهم منصفة، عليها أن تكون شفافة وأن تعمل وفقاً لسيادة القانون، فإصلاح مؤسسات الدولة وجعلها أكثر كفاءة ومساءلة وشفافية ركن أساس من أركان الحكم الديمقراطي، وتعتمد شفافية الأجهزة الحكومية اعتماداً كبيراً على توفر المعلومات ومدى صحتها، ولذلك يتطلب النقاش النشط حول قضايا السياسات العامة، من هذه الأجهزة توفير مختلف البيانات التي تهم المصلحة العامة والتي تتعلق بمستقبل البلد والسياسات الحكومية. وتأسيساً على أهمية الشفافية كمعيار من بين معايير المجتمع الديمقراطي، وكأساس للحكم الرشيد أصبح للدول ترتيب في سلم الشفافية الدولية، الذي يرتبط بالعديد من المفاهيم الأخرى ذات الصلة، مثل المحاسبة والمساءلة والحوكمة والإعلام الحر.. وغير ذلك من العناصر اللازمة. ومن هذا المنطلق تكون الشفافية حالة ثقافية وقيما وتقاليد اجتماعية. قبل أن تكون حالة اقتصادية أو سياسية أو إدارية، وهذا يطرح سؤالاً مهماً وهو: هل نحن مجتمعات شفافة؟ وهل نتعامل بشفافية مع أنفسنا ومع أسرنا ومع محيطنا الاجتماعي والوظيفي ومن ثمة مع الدولة نفسها؟ فمن يستطيع أن يعطي جواباً بالإيجاب يعرف معنى الشفافية وهو من يستطيع أن يقدر أبعادها ويمارسها في أي موقع كان. فكيف نطلب من إنسان لا يصدق في حياته الشخصية ومع أقرب الناس إليه أن يكون مسؤولاً صادقاً تجاه وظيفته وتجاه التزاماته الوطنية، وكيف نطلب منه أن يكون شفافاً عندما يتولى منصباً إدارياً أو سياسياً؟ فالشفافية أمر حيوي وأساسي لأي مجتمع ديمقراطي، إلا أنه يجب أن نفهمها على أنها تقاسم للمعلومات والتصرف بطريقة مكشوفة وواضحة، لأنها تتيح للمجتمع ومؤسساته الدستورية والمدنية الأهلية والإعلام الحصول على المعلومات العامة والمهمة حول أي موضوع حيوي. وقد يكون لهذه المعلومات دور حاسم في الكشف عن المساوئ والأخطاء والمساعدة على معالجتها على نحو صحيح وواضح بعيداً عن الشائعات. لذلك تمتلك الأنظمة ذات الشفافية إجراءات واضحة لكيفية صنع القرار على الصعيد العام. كما تمتلك قنوات اتصال مفتوحة بين أصحاب مؤسسات المجتمع المدني والمسؤولين، وتضع سلسلة واسعة من المعلومات في متناول يد الجمهور. وعليه، إذا أردنا أن نعالج مشكلة ما، فيجب أن نتناولها من بدايتها وليس من نهايتها، وأن نعالج الأسباب قبل النتائج. وهذا يحتاج إلى مواجهة جريئة مع أنفسنا ومع مجتمعنا، وهي مواجهة حوارية نتحدث فيها بصراحة عن نقاط ضعفنا ونقاط قوتنا. وكمثال على الشفافية المتكاملة في مجتمع شفاف وواضح يمكن أن نذكر الدول الإسكندنافية التي تتمتع بأفضل سجل في محاربة مختلف أنواع الفساد في المعاملات الرسمية، حيث يتقلص وجود الرشاوى ومحاولات إغراء أصحاب القرار للحصول على منافع شخصية. باعتبار الشفافية مقوما أساسيا من مقومات الحكم الرشيد الذي يشكل شرطاً مسبقاً من شروط تحقيق التنمية البشرية. لأن الشفافية والمساءلة مفهومان مترابطان يعزز كل منهما الآخر، ففي غياب الشفافية لا يمكن وجود المساءلة، وما لم يكن هناك مساءلة فلن يكون للشفافية أية قيمة، ويسهم وجود هاتين الحالتين معاً في قيام إدارة فعالة وكفؤة ومنصفة على صعيد المؤسسات العامة والخاصة. لذلك فإن المشكلة في الدول الديمقراطية ترتبط بالتأكيد بالقدرة على الحصول على المعلومة، فلا أسرار في المجتمع الديمقراطي إلا ما يتعلق بالأمن القومي والأمن الصناعي والعلمي والمساءلة تشكل، خصوصاً من حيث علاقتها بإدارة الأموال العامة، معياراً من معايير الإدارة العامة السليمة، وتتطلب المساءلة وجود نظام لمراقبة وضبط أداء المسؤولين الحكوميين والمؤسسات الحكومية، خصوصاً من حيث النوعية والكفاءة واستعمال الموارد والسلطة، ولذلك فإصلاح مؤسسات الدولة لكي تصبح أكثر كفاءة ومساءلة وشفافية هو ركن من أركان الحكم الصالح والنظام الديمقراطي ومما يؤكد أهمية الشفافية سماح عدد من الدول العربية خلال السنوات الأخيرة بتأسيس جمعيات للشفافية -بغض النظر عن التجاذبات السياسية التي قد تنال من مصداقية عملها- تتابع الأحداث وترصد وتقيم جهود وتصرفات المؤسسات الرسمية، من حيث مدى تطبيقها لعنصر الشفافية، وبالرغم من محدودية تأثيرها، فإن وجودها يظل من حيث المبدأ مهماً للجميع، في سياق الحق في المساءلة. أن تكون هنالك شفافية حقيقية وواسعة، تتيح دوران المعرفة ووصول المعلومات ومراجعتها ومناقشتها من الجميع حتى يكون هنالك وضوح في السياسات وفي اتخاذ القرارات المناسبة، فالمعلومات المتعلقة بالاقتصاد وبأوضاع السوق مثلاً تشكل عنصراً أساساً لقدرة القطاع الخاص على إجراء حسابات صحيحة. كما إن المطلوب في هذا الاتجاه أيضاً احترام تحليل المعلومات من قبل المختصين التكنوقراط لإعطائها المدلول الموضوعي وليس للمزايدة السياسية، فالشفافية تقي من ارتكاب الأخطاء في تقدير الموارد او التصرف في الموارد. فالشفافية والمساءلة تتيحان مساحة واسعة لحماية المصلحة العامة، وتستطيع وسائل الإعلام إحداث قدر كبير من التأثير في هذا الميدان وكذلك مؤسسات المجتمع المدني والمؤسسات الدستورية الديمقراطية. وبالنسبة لتجربة البحرين، فمن الواضح أننا ما نزال في بداية الطريق نحو الشفافية بمعناها الواسع والشامل، ومن الواضح أيضاً أن هنالك رغبة رسمية معلنة وحقيقية في تكريس الشفافية والمساءلة، وهنالك شعار كبير مرفوع في هذا المجال؛ إلا أن الممارسة ما تزال في بداياتها، ونتطلع في المستقبل إلى أن يشهد هذا الأمر تطوراً كبيراً لأن الشفافية والمساءلة يحققان مصلحة المجتمع على نحو شامل. إن الشفافية تعني تحمل المسؤولية، وإذا ما زرعت الشفافية بين الناس فإن المجتمع يتحرر من الإشاعات ومن الخوف على المستقبل ومن الشكوك والاتهامات العشوائية، ومن مظاهر التذمر والشكوى والشكوك وإطلاق الاتهامات الجزافية. ونعتقد أننا في مملكة البحرين، وبفضل المشروع الإصلاحي لجلالة الملك، نسير على هذا الطريق بشكل مبدئي، فهنالك رغبة معلنة والتزام معلن عن ذلك. وهنالك مجلس للنواب ومجلس للشورى، وهنالك صحافة حرة ومؤسسات للمجتمع المدني وديوان للرقابة الإدارية والمالية، وجميعها تمارس دورها في المساءلة والرقابة وتحقيق قدراً من الشفافية ولكن هل هو كافٍ إلى الدرجة التي تجعل المجتمع مطمئناً تمام الاطمئنان؟
مشاركة :