إدغار موران يسرد لقاءه المبكر مع الموت

  • 4/14/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في أكثر من كتاب أو حوار معه، روى الفيلسوف وعالِم الاجتماع الفرنسي إدغار موران حدث فقدانه أّمّه وهو طفل. وها أننا نكتشف اليوم أنه وضع عام 1946 رواية حول هذه المأساة، صدرت حديثاً عن دار «أكت سود» الباريسية بعنوان «جزيرة لونا». في حوار أجري معه عام 2008، صرّح موران: «أنظر إلى النوع الروائي باحترامٍ كبير. لطالما اعتقدتُ بأنه لا بد من عبقريةٍ كي نكون روائيين، بينما يكفي الذكاء للعمل في ميدان العلوم الإنسانية». هل هذا يعني أنه سلّم، بعد عشر سنوات على هذا التصريح، بعبقريته الأكيدة، بما أنه أصدر أخيراً هذه الرواية التي كتبها قبل 72 عاماً؟ أم أنه أمسى أقل قسوة مع موران الشاب الذي شعر في سن الخامسة والعشرين بضرورة طارئة لكتابة رواية؟ نعرف أن هذا العملاق وضع خلال مسيرته الطويلة والباهرة أعمالاً لا تحصى في ميادين مختلفة من دون أن يحتكّ مرةً بالسرد الروائي. ومع أن كتابه «نقد ذاتي» (1959) ذو طابع سردي، لكن الهدف الذي سعى خلفه فيه كان تذكارياً وفكرياً. وكذلك الأمر بالنسبة إلى كتاب «باريسي، ذاكرتي» (2013) الذي هو سردية سيرذاتية يستحضر فيها اللحظات المهمة من حياته من خلال نزهة في الأحياء التي سكنها في العاصمة الفرنسية. وبالتالي، «جزيرة لونا» هو عمله الروائي الوحيد، وإن ارتكزت القصة المروية فيه على فصلٍ حقيقي من حياته خلّف جرحاً عميقاً داخله. فصلٌ يصف الفيلسوف عنفه ـ عنف الاقتلاع من حضن الأم ـ في «نقد ذاتي» بثلاث جُمَل قصيرة وبسيطة تعكس بصيرة تحليلية تلجم العاطفة، وفي الوقت نفسه، تسطّر الحدث الذي يحدّد حياةً، أبعد من أي إدراكٍ مسبَق: «حدثٌ حسم تطوّري. توفّيت أمي. كنتُ في سن التاسعة». بصيرة تبدو حاضرة وفاعلة في روايته، وإن في شكلٍ خفي أو ضمني. من «التحذير» الذي يتقدم نص «جزيرة لونا»، نعرف أن «الرواية عاشت نحو سبعة عقود حياةً سرّية» في درجٍ أزرق لأن صاحبها لم يرغب في نشرها. نعرف أيضاً أنه أضاع صفحاتها الأخيرة، ما أضطّره، بطلبٍ من الناشر، إلى إكمال نصّها الأصلي بفقرة تسمح بعدم تركه غير منجَز. ومنذ الصفحات الأولى، يتسلّط على هذا النص شعور بالخوف لأن لونا، والدة بطل الرواية، ستمنع ابنها، وهو فتى في سن الحادية عشرة يدعى ألبير ميرسييه، من التأمّل طويلاً في لوحة «جزيرة الأموات» التي رسمها الفنان السويسري أرنولد بوكلين عام 1886، خوفاً مما يمكن أن يخلّفه في نفسه هذا التمثيل الرمزي للموت. لكن نظراً إلى مناخها الساكن والسلمي، لن تخِف هذه اللوحة الفتى ألبير الذي يربطه بأمّه تواطؤ رقيق ويتمتّع بمخيّلة جامحة يستثمرها لكتابة روايات مغامرات. فتى يتبيّن بسرعة لنا أنه مولع بالأدب ولا يفوّت فرصة من دون الاستسلام لمخيّلته حيث يرى دوماً نفسه «مبحراً، مسافراً، محمولاً إلى أماكن بعيدة بريح الحياة». وفي أحد الأيام، يحضر زوج خالته إلى المدرسة ويتوجّه به مباشرةً إلى منزل هذه الخالة، لكن ليس قبل أن يقول له إن أمّه اضطّرت إلى الذهاب إلى مدينة فيتيل للعلاج. وفوراً يحزر ألبير ما حدث، من المناخ حوله، من النظرات «الجبانة تارةً والملحّة تارةً أخرى»، من الجُمَل التي يمتنع أصحابها من إكمالها أمامه، وخصوصاً حين يرى والده وسائر أفراد عائلته بثيابٍ سوداء لدى عودتهم من المقبرة. يفهم ما حدث لكنه يرفض أن يكون ذلك الذي يفجّر الصمت الذي يلفّ الحدث ويجعل بذلك من وفاة أمّه واقعاً لا مفرّ منه. وكي لا يعي ما فهمه، ولمقاومة بأي ثمن ما يتوجّب عليه تقبّله، يفرّ ألبير إلى داخل أحلامه، ولكن ليس من دون أن يشعر في أعماقه بغضبٍ كبير بسبب خبث محيطه. ولن يلبث سلوكه السفيه في ظاهره أن يصطدم بعدم فهمٍ كلي من قبل والده المكلوم والمضطرب، ومن قبل خالته وزوجها اللذين لن يريا فيه سوى طفلٍ مدلَّل. ولا عجب في ذلك، فألبير سيتصرّف كما لو أن شيئاً لم يكن، مُخفياً على الجميع حقيقة مشاعره، ومسلّحاً بتمرّده. فقط في الحمام نراه يذرف دموعاً حارّة على أمّه، قبل أن يخرج بوجهٍ مغلَق، ما يجعله يظهر للآخرين كفتى بلا قلب، تماماً مثل بطل فيلم لويجي كومينشيني، L’incompris، الذي يرفض تقاسُمَ ألمه مع أي شخصٍ آخر. ويجب انتظار نهاية الرواية، كي يبلغ ألبير نوعاً من السكون والطمأنينة إثر شعوره مرةً، تحت ضوء القمر، بأن أمه لونا (التي يعني اسمها «القمر» بالإيطالية) ما زالت تسهر عليه، ولن تتوقف من حمايته. «جزيرة لونا» ليست تحفة أدبية نادرة، لكنها من دون شك سردية ناجحة تكمن قيمتها في نثرها الملتهب بحساسية وحزنٍ شديدَين، وفي تمكّن موران داخلها من الانزلاق تحت جلد الطفل الذي كانه حين فقد أمّه من أجل بلورة كل المشاعر الناتجة من لقاءٍ أوّل ومُبكِر مع الموت، ومن مناخ التكتّم غير المبرَّر والخبيث، في نظره، الذي نحيط به الأطفال عادةً إثر فاة أحد والديهما. وهذا ما يدفعنا إلى التساؤل حول السبب الذي يقف خلف قرار الفيلسوف عدم نشر هذه الرواية مباشرةً بعد إنجازها. فهل كان يخاف أن لا يعجب نصّها المشحون بغنائية مناسبة لموضوعها أصدقاءه آنذاك (مارغريت دوراس، روبير أنتيلم، ديونيس ماسكولو، إيليو فيتوريني) الذين كان يتركّز اهتمامهم على الاختبارات الروائية الجديدة؟ أم أنه انغلق داخل تحفّظٍ مفهوم، رافضاً الكشف عن المشاعر القوية التي كانت تربطه بأمّه؟ أم أنه اعتبر أن الاستسلام للسرد، وبالتالي للأدب، يعني نقض حِداده على أمّه؟ مهما يكن، تنبئ «جزيرة لونا» بقريحة موران الفلسفية لما تتضمّنه من تأمّلات ثاقبة وعميقة في الحياة والموت، وفي الوقت نفسه، تكشف جانباً مخفياً من عبقريته، وتحديداً ذلك الميل الروائي فيه الذي يصالح ما يميّز فكره ويجعل منه «منظِّر التعقيد» بامتياز، ونقصد «العقلانية ومنطق القلب، الشك والنزعة الصوفية». ميلٌ دفعه مرةً إلى الإقرار بأنه لطالما بحث عن نفسه «بين دوستويفسكي ومونتاين»، لاقتناعه بأن الأدب يحضّر قارئه أو كاتبه على الحياة ويقوده إلى «أبواب العالم الاجتماعي والسياسي». ومن هذا المنطلق، تشكّل روايته الوحيدة مفتاحاً مهماً لفهم شخصيته وخيارات حياته.

مشاركة :