إدغار موران آخر العمالقة الإنسانيين

  • 1/17/2020
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

في كتاب “الذكريات تأتي للقائي”، اختار الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران (واسمه الحقيقي إدغار ناحوم، فهو من أسرة يهودية علمانية) أن يجمع الذكريات التي يستعيدها بشكل غير مدروس سلفا، حين تنبعث في ذاكرته نتيجة ظرف مخصوص أو لحظة موحية، ويتوالد بعضها من رحم بعض. يرسم موران محطات فارقة في حياته الشخصية والمهنية، ومساره النضالي، علاوة على الأحداث الكبرى التي عاشها أو كان شاهدا عليها، فيلتقي الذاتي بالموضوعي كما يسردها هذا “الشيخ الشاب” كما يلقب نفسه، وهو الذي لا يزال حاضر البديهة قويّ الذاكرة رغم أعوامه التي تناهز قرنا من الزمان. العلم والنضال زاوج موران بين طلب العلم والنضال من أجل قضايا عادلة، إذ أيّد استقلال الجزائر وناصر القضية الفلسطينية، وكان من المساندين القلائل للرسام الفرنسي الساخر سيني عندما اتهم ظلما بمعاداة السامية. بدأ حياته مقاتلا في صفوف الجمهوريين خلال الحرب الأهلية الإسبانية في أواسط الثلاثينات، ثم انخرط في الحزب الشيوعي الفرنسي عام 1941، وانسلخ منه في مطلع الخمسينات بعد أن تبدت له الطبيعة الشمولية للمنظومة الاشتراكية. في تلك الفترة، أي في مطلع الأربعينات، حصل على إجازة في التاريخ والجغرافيا وأخرى في الحقوق، قبل أن ينضم إلى صفوف المقاومة الفرنسية تحت اسم مستعار “موران”، أي الاسم الذي سوف يعرف به بقية حياته، وحمل السلاح ضد الاحتلال النازي، وأخيرا انخرط في المعركة الإيكولوجية على المستوى العالمي لإيمانه بأن أكبر مشكل يواجه البشرية هو مصيرها ومصير كوكبها. إدغار موران يحمل فكرا مناهضا للهيمنة قادرا على العودة إلى الممارسات التضامنية على حساب الممارسات الفردية بعد الحرب، التحق موران بالمركز الوطني للدراسات العلمية حيث كان سباقا في اهتمامه ببعض الظواهر الهامشية التي تنذر بأزمات لاحقة، قبل أن يتولى إدارته عام 1970. ورغم نشره بعض المؤلفات وتأسيسه مجلة “ذرائع”، فإن اسمه لم يكرّس حقّا إلا بداية من عام 1982، حين صاغ مشروعه عن “الفكر المركّب” وبدأ تحرير كتابه الضخم “المنهج” الذي انتهى من وضعه عام 2004، وابتكر فيه مصطلح “وصل” للتأكيد على الحاجة إلى ربط ما انفصل وانقطع وتشظى وصُنّف في مجالات معرفية ومدارس فكرية، لتوليد شكل جديد من المعرفة، خارج الأطر القائمة، لكونه ينظر إلى الأشياء كشكل تتضافر فيه المواجهة والتكامل والتنافس والتعاون في دينامية وطيدة. وقد عدّها عدد من الباحثين والمفكرين نوعا من الخروج عن الملة في بلد ديكارتي يجلّ التخصص. ويذكر موران في هذا الباب علاقته المتوترة بعالم الاجتماع بيير بورديو وأعماله “المتعالية” و“المهيمنة” التي كانت حاضرة في كل مكان، ويضيف موضّحا “أنا لست ضد التخصص، ولكن طريقتي في جمع الأفكار هي التي خالفت المعتاد. أنا متعدد الاختصاصات لأني أحتاج إلى اختصاصات متنافذة، تفتح على بعضها بعضا لمعالجة القضايا الكبرى، وإلا فليس أمامنا غير تقارير خبراء، والخبراء في الغالب ينغلقون في حدودهم البيروتقنية”. عرف موران بسعة علمه، وقدرته على قراءة الحاضر واستشراف المستقبل، ولكن ما لا يعرفه الكثير ولعه بالثقافة الشعبية، وبالأدب الروائي “غذائه الأول” كما يقول. فهو يعترف أنه مبتهج بكونه “لقيطا ثقافيا”، وبانتمائه إلى سلالة اليتامى، وما اهتمامه بمشاكل الانحراف والهامشية إلا عودة إلى الأشياء التي استمد منها قوته وحقيقته. ورغم إسهاماته منذ أكثر من سبعين عاما، يقول إنه لم يبتكر شيئا، وإن كل ما ألفه متأتّ من جهة ما من جهات هذا العالم في تنوعه وثرائه. والمعلوم أن موران من المفكرين القلائل الذين تنقلوا في أرجاء المعمورة، لاسيما في أميركا الجنوبية، واتصلوا بأهلها، وحازوا شهادات دكتوراه فخرية من جامعاتها. وعلاقته بأميركا اللاتينية يرجع عهدها إلى الستينات، عندما بدأ “الفكر الخلاسي” والأساطير الكبرى للحضارات ما قبل الكولومبية تحظى باهتمامه، ولعل البرازيل، بلد التنوع البشري بامتياز، هي التي أبهرته، ففيها اكتشف مجتمعا يعيش أكثر التناقضات فتنة وتراجيدية. وفيها تكونت خلال التسعينات مجموعات تفكير حول “الفكر المعقد”، حيث أوصى موران بضرورة تجاوز ثنائية الثقافة الشعبية والثقافة الكلاسيكية، لأن الثقافة في اعتقاده ينبغي أن يُنظَر إليها كتعبير عن تجليات مشتركة، مثلما ينظر إلى المنجزات الثقافية كأدوات لإدراك الواقع والهوية الإنسانية. ومنذ ذلك التاريخ لم تتوقف زياراته إلى أغلب بلدان أميركا اللاتينية من كوبا والمكسيك وفنزويلا إلى بوليفيا وكولمبيا وبيرو وخاصة شيلي التي اكتشف فيها مأساة الهنود ألاكالوفيس، وهم من ناجعة البحر الذين انقرضوا تقريبا نتيجة سياسة التمدّن التي انتهجتها الحكومات المتعاقبة. مفكر استشرافي لا يكتفي موران بسرد ذكرياته، بل يواصل دفاعه عن البيئة، الذي كان بدأه في كتاب “الأرض الوطن”، ليؤكد أننا نواجه أزمة عالمية، تجد جذورها في أنموذج حضاري بُني على الفردانية والجشع والتنافس والاستهلاك المفرط والإقصاء، وينبه إلى دور التربية في التوعية لصيانة ما يمكن صيانته قبل فَوْت الأوان، مركزا على مساهمات الجنوب، كمرجع اجتماعي ثقافي، يحمل فكرا مناهضا للهيمنة قادرا على العودة إلى الممارسات التضامنية على حساب الممارسات الفردية، وتثمين التنوع كعنصر مكوِّن، والاعتراف بالرابط الوثيق الذي يجمع كل إنسان بشبكة معقدة تؤلف مجموعة كونية. في ذكرياته غير المتتالية، يتبدى إدغار موران مفكرا ذا نزعة إنسانية ووعي عميق بالمخاطر التي تتهدد كوكبنا، ولكنه يكشف لنا أيضا عن جوانب حميمة من حياته، منذ ولادته حتى موت أمه ولم يتجاوز العاشرة بعد، ويطرح قناعاته وأفكاره، وعشقه للبلدان التي عاش فيها، والتقى بكتابها ومثقفيها وفنانيها، وحاضر في جامعاتها، والتي يريد أن يودعها الواحدة تلو الأخرى قبل رحيله. وهو يدنو من النهاية يقول غير نادم “لست ممّن لهم مسيرة مهنية، بل ممّن لهم حياة”، متمثلا قول بابلو نيرودا “أعترف أني عشت”، ويقدم لنا فكرة عن حياة منذورة للمعرفة والاكتشاف.

مشاركة :