مازالت الطبقة السياسية الفلسطينية السائدة، والمسيطرة، متمسكة بالأوهام التي اشتغلت طوال العقود الماضية على أساسها، وأنا أفضل استخدام مصطلح الطبقة على مصطلح النخبة، لأن للأخير معنى إيجابياً، على الأغلب، فيما الأول هو الأكثر دلالة وموضوعية عن واقع الحال، بغض النظر عن الناحية القيمية، لأننا حقا إزاء طبقة متشكّلة، ومتمحورة حول ذاتها، منذ أكثر من أربعة عقود، في كيانات السلطة والمنظمة والفصائل، إذ التغيرات التي طرأت عليها طفيفة جداً، ولا تكاد تلحظ؛ هذا أولاً. ثانياً، لأن هذه الطبقة تعيش على «الريع» المتأتّي من الخارج، أي من أموال الداعمين للعمل الفدائي، أي حركة التحرر الوطني الفلسطينية (سابقاً)، أو من الدول المانحة للسلطة وفقاً لتعابير اليوم، وهي تضم الولايات المتحدة وكندا وأستراليا والدول الأوروبية واليابان وبعض الدول العربية، علما أنه دعم مشروط بالاستمرار بالعملية التفاوضية. ثالثاً، لأن هذا الوضع يميّزها لجهة عدم انضوائها في إطار الدورة الاقتصادية أو العملية الإنتاجية لمجتمعات الفلسطينيين، ناهيك أنها لا تتأثر بهما. رابعاً، أخيراً لأن هذه الطبقة في وضعها هذا باتت لديها مفاهيم مشتركة، وثابتة، وإن تلونت، أو اختلفت في التفاصيل. ومعلوم أن الخلافات أو التباينات الفلسطينية لم تعد منذ قيام السلطة، أي منذ ربع قرن، ذات طبيعة فكرية أو سياسية على نحو ما عرفته حركة التحرر الفلسطينية في السبعينات، وإنما باتت لها علاقة بالصراع على المكانة والنفوذ في إطار السلطة، مع علمنا أن هذه الطبقة لديها قاعدة مجتمعية تشكل حوالى ربع مليون من المتفرغين في الكيانات السياسية (المنظمة والسلطة والفصائل). هكذا، فنمط تفكير هذه الطبقة بات مرتهناً لأحوالها، وحراسة مكانتها في السياسة والسلطة والمجتمع، والحفاظ على الامتيازات التي تحظى بها، بوصفها كذلك، وتالياً فهو بقي مرتهناً للفرضيات أو التوهمات التي تأسست عليها، منذ أربعة عقود. ولعل أولى هذه الفرضيات أو التوهمات تتعلق بعملية التسوية، التي جرى تبنّيها منذ أكثر من 44 عاماً، في الدورة الـ11 للمجلس الوطني الفلسطيني (1974)، والتي كان اتفاق أوسلو (1993) بمثابة ابن شرعي وطبيعي لها. وفي الواقع فهذه التــــسوية لم تحدث ولا حتى في أقل أحوالها، ونحن هنا لا نتحدث فقط عن حدود التسوية، في 22 في المئة من أرض فلسطـــين فقط، القائمة على حل مشكلة احتلال الضفة والقطاع (1967)، وليس على حل مشكلة النكبة المؤسّسة على قيام إســرائيل وتشريد ثلثي الشعب الفلسطيني (1948)، وإنما نتحدث عن عدم استجابة إسرائيل حتى للمطلوب منها في اتفاق أوسلو، المجحف والجزئي، بإصرارها على استمرار الاحتلال والاستيطان والهيمنة السياسية والاقتصادية والأمنية على الفلسطينيين. ومعلوم أن ذلك تبيّن، أو تكرّر، سابقاً، في رفض إسرائيل تنفيذ استحقاقاتها من اتفاق أوسلو، وفي املاءاتها في مفاوضات كامب ديفيد2 (2000)، وفي تملصها من خطة خريطة الطريق (2002)، ناهيك عن تبينه الآن في ما بات يعرف بصفقة القرن، التي تعني الإطاحة نظريا باتفاق أوسلو، بعد أن تمت الإطاحة عمليا به منذ عقدين، وصرف النظر عن مفاوضات الحل النهائي، التي تتعلق بقضايا القدس واللاجئين والحدود والمستوطنات. نعم، من المدهش أن الطبقة السياسية الفلسطينية ما زالت تتحدث عن تسوية، على رغم أن الظروف تغيرت كثيراً، وأن إسرائيل تزداد قوة، والفلسطينيين يزدادون ضعفاً وتفكّكاً، سياسياً ومجتمعياً، فكم 44 سنة، أو كم ربع قرن تحتاج هذه الطبقة حتى تغيّر قناعتها؟ أو حتى تبتكر معادلات سياسية جديدة أكثر واقعية، تربط الإمكانات بالطموحات، والمرحلي بالاستراتيجي، والممكن بالمأمول؟ وربما يجدر التأكيد هنا أن هذا التوصيف لا يعني، بداهة، أن البديل يتمثل بقيام الفلسطينيين بشنّ حرب على إسرائيل أو بشنّ موجة من الكفاح المسلح عليها، إذ لا أوضاع الفلسطينيين تسمح لهم بذلك، ولا إمكاناتهم، ولا الظروف العربية والدولية، وإنما القصد أن على الفلسطينيين ابتداع الأشكال النضالية التي تتناسب مع إمكاناتهم الخاصة، والتي تضر بعدوهم بدلاً من أن تضرّهم، أو تجعله يستفرد أو يستسهل البطش بهم، وفضلا عن ذلك البحث عن خيارات وطنية أخرى، طالما تم الحديث عنها من دون أن ترجمة عملية لها. الوهم الآخر يتعلق بإمكان قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة في الضفة الغربية وقطاع غزة، وهذا مرتبط، أيضاً، بوهم التسوية، إذ انقضت عليه عقود عدة، علماً أن هذا الهدف بات مستحيلاً اليوم، مع استشراء الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، لا سيما في محيط القدس، ومع بناء الجدار الفاصل والطرق الالتفافية، وكلها تقطع أوصال الضفة، وتعيق التواصل بين الفلسطينيين، ناهيك عن عمق علاقات التبعية والاعتمادية التي تربط القطاعات الاقتصادية الفلسطينية بإسرائيل، وببناها التحتية. هذا بات صعباً جداً أيضاً بسبب تزايد وزن اليمين القومي والديني في المعادلات السياسية الإسرائيلية، وغياب أي ضغط مؤثر من الخارج، لا ضغط في المقاومة ولا في السياسة، لا عربياً ولا دولياً، بل إن العالم يبدو مشغولاً عن الفلسطينيين والإسرائيليين، كأنه تعب منهم ومن خلافاتهم، ناهيك عن انصراف الدول العربية لتدبر احوالها، بعد الاضطرابات أو الثورات الحاصلة، لاسيما في المشرق العربي، سيما مع تزايد المخاطر الناجمة عن صعود نفوذ إيران في العراق وسوريا. ليس هذا فقط، بل إن الفلسطينيين حتى من دون إسرائيل، باتوا في واقع صعب مع حال الانقسام، بين الضفة وغزة، والخلاف أو الصراع على السلطة بين فتح و «حماس»، أكبر حركتين فلسطينيتين. فإذا كان عقد من الانقسام لم يستطع أن يعيد لحمة الكيان الفلسطيني، فما الذي سيجعل ذلك ممكناً في المدى المنظور؟ والقصد أن الانقسام بات من أهم معوقات إقامة دولة فلسطينية مستقلة. فوق كل ذلك، فمن الواضح أن إسرائيل ليست بصدد الاعتراف بدولة مستقلة للفلسطينيين ذات معنى سيادي وهوياتي حقيقي، بمقدار ما هي معنية بإخراج الفلسطينيين من دائرة المواطنة، وإيجاد نوع من سلطة محلية لهم، عند مستوى حكم ذاتي، حتى لو تمت تسميتها دولة، فهذا لا يهمّ إسرائيل، بمقدار ما يهمها إبقاء سيطرتها السياسية والأمنية والاقتصادية عليهم. وبدهي أن هذا الوضع ينجم عنه تعذر قيام سلطة فلسطينية، ذات سيادة على إقليمها، أي أن السيادة ليست على الأرض، وإنما هي على المجتمع الفلسطيني، إذ السلطة لا سلطة لها، بحسب ماصرح الرئيس الفلسطيني ذاته قبل أشهر. والمعنى أن إسرائيل تتوخى من إقامة السلطة والإبقاء عليها فقط حجب واقعها كدولة أو كسلطة احتلال، والتخفّف من الأعباء الأخلاقية والسياسية والأمنية والاقتصادية للسيطرة على شعب آخر، والحفاظ على كونها دولة يهودية، وهذا هو الدور المناط بإنشاء السلطة الفلسطينية، في نوع من تقاسم وظيفي، قائم على الانفصال، في مجتمعين على الأرض ذاتها، مع سيادة إسرائيلية، أي أننا إزاء «آبارثايد» بنكهة إسرائيلية. في الغضون، فإن إدراكات هذه الطبقة، في توهماتها تلك، تتأسس على تهميش الفلسطينيين اللاجئين، والتصرف كأن الشعب الفلسطيني بات في الضفة الغربية، وفقط، على رغم أن استحضار الفلسطينيين الآخرين، في 48 أو في بلدان اللجوء، وحتى في غزة، بات من باب الإنشاء لا أكثر. قصارى القول فمن دون تغيير في الطبقة السياسية، أو من دون تغيير في مفاهيمها، أو من دون تغيير في المعادلات السياسية الفلسطينية والإسرائيلية والإقليمية، سنبقى في المكان ذاته، مع الأوهام ذاتها، سواء كان ذلك باسم استمرار الأمر الواقع، أو باسم “صفقة القرن” أو بأي اسم اخر.
مشاركة :