إن العمالقة في كل منحى من مناحي الحياة قلة قليلة للغاية، وإن هؤلاء العمالقة عملة نادرة ولذلك يكون لهم مكانة فريدة بين بني البشر، ولهؤلاء العمالقة دور هام في حياة الأمم، وتقاس قيمة الأمم بما أنتجت من مواهب فذة، ولهؤلاء النوادر دور خطير وهام في بناء الأمم وفي صنع الحضارة البشرية وفي رقي الإنسانية؛ بما يمتلكون من موهبة – هي وحدها غير كافية – عملوا على صقلها بشتى الطرق ومختلف الوسائل.تظل الأمة المصرية إحدى أبرز الأمم في إنتاج المواهب الفذة، وإخراج العمالقة على مر الدهور، وهذا الذي يفسر هذه الحال المتميزة لمصر في كافة المجالات. وأنا لست من هؤلاء الذين يفضلون فترة زمنية عن أخرى، لإيماني المطلق بأن لكل مرحلة زمنية ميزاتها، وبها حسناتها، كما فيها ما يعيبها، وما ينتقص منها، فهذا هو طبيعة الأشياء، كما أن في كل مرحلة تاريخية ظهرت نوابغ تتفق وظروف تلك المرحلة، تلك النوابغ التي نظل ننهل مما تركت من آثار، ونستمر دوما نتدارس ما خلّفوا من إنتاج.من بين هؤلاء العمالقة التي أنجبتهم الأرض الطيبة، عباس محمود العقاد، الذي ولد في الثامن والعشرين من يونيه للعام التاسع والثمانين للقرن قبل الماضي في محافظة أسوان جنوب مصرنا العزيزة، يمثل هذا العملاق حالة فريدة، ويظل العقاد شاهدا على عصره وعاكسا لبيئته في كافة تفاصيلها، حيث أُجْبِر على أن يكتفي بمرحلة التعليم الابتدائية نظرا لخلو محافظة أسوان آنذاك من مدارس التعليم الحديثة!، وضيق يد أسرة الطفل عباس محمود العقاد، التي لا تستطيع أن ترسله للقاهرة، كما تفعل الأسر الثرية مع أبنائها، لاستكمال مراحل التعليم. عدم الاستكمال هذا الذي لم يمنع الموهبة الفذة من أن تخطّ لنفسها خطا من ذهب في لوحة أفذاذ الأدب والفكر والفلسفة، حيث اشتغل على نفسه، وأصقل موهبته من خلال ثقافة واسعة، إذ عرف عنه أنه موسوعي المعرفة. فكان يقرأ في التاريخ الإنساني والفلسفة والأدب وعلم النفس وعلم الاجتماع، وقد قرأ وأطلع على الكثير من الكتب، وبدأ حياته الكتابية بالشعر والنقد، ثم زاد على ذلك الفلسفة والدين. ليصبح أحد أهم مفكري مصر والعالم العربي، ويمنح لقب عملاق الفكر العربي – في عصر زخر بالعمالقة – عن جدارة واستحقاق.لقد كان عباس محمود العقاد كاتبا فيلسوفا شاعرا أديبا، تميزت كتاباته بالعمق الشديد، ولغته بالرصانة الهائلة، وشعره بالموهبة والحداثة، وطرق العديد من مجالات الكتابة، مظهرا في كل مجال منها براعة تسلب القلوب، ورؤية تأسر العقول.إن عباس محمود العقاد يظل أحد كتاب المراحل الأخيرة للمثقف، فلا يستطيع أن يسبر غور إنتاجه أو يصل لفهم آثاره إلا مَن تدرب قبل أن يصل لقراءته على من هم أقل شأنا من عملاق الفكر العربي، وهذا هو طبيعة الأشياء، فلا يمكن لمن هو وليد يحبو أو طفل يتعلم السير في مجال الثقافة والأدب والفكر والفلسفة أن يقرأ قمة هرم الفكر والثقافة، ولعل أوضح مثال على ما نذهب إليه هو كتاب "الله" الذي خطه المفكر الكبير ردا على هؤلاء الذين ينكرون وجود الخالق، بعد أن رأى ظاهرة لدى البعض حيث وجد أن هناك من يحاول إثبات الثقافة لنفسه عن طريق إنكار وجود الله سبحانه وتعالى فنشر في ذلك كتابا هاما: لا يمكن للجميع بطبيعة الحال فهمه، لطبيعة موضوعه الفلسفي، الذي يحتاج إلى متخصصين أو على أقل تقدير من لديهم الثقافة الكافية في هذا الجانب الفلسفي الهام.وفي هذا المنحى الفلسفي كان لعباس العقاد نظرية في الجمال ضمنها كتابه عن المرأة "هذه الشجرة"، الذي عرض فيه المرأة من حيث الغريزة والطبيعة.وفي المجال الشعري أنتج عباس محمود العقاد عشرة دواوين، وأسس – مدرسة شعرية مصرية عربية - مع كل من الشاعرين إبراهيم المازني وعبد الرحمن شكري مدرسة الديوان التي كانت حركة تجديدية في الشعر العربي في النصف الأول من القرن العشرين. وكان سبب تسميتها بهذا الاسم كتابا ألفه العقاد والمازني وضعا فيه مبادئ مدرستهم واسمه "الديوان في الأدب والنقد". حُددت أهداف المدرسة كما يقول العقاد في الديوان: «وأوجز ما نصف به عملنا إن أفلحنا فيه أنه إقامة حد بين عهدين لم يبق ما يسوغ اتصالهما والاختلاط بينهما، وأقرب ما نميز به مذهبنا أنه مذهب إنساني مصري عربي».وهذا ما أكده الدكتور طه حسين في الكلمة التي ألقاها في حفل تكريم عملاق الفكر العربي عباس محمود العقاد الذي أقيم في حديقة الأزبكية في إبريل من العام الرابع والثلاثين من القرن العشرين حينما قال: « تسألونني لماذا أومن بالعقاد في الشعر الحديث وأومن به وحده، وجوابي يسير جدا، لأنني أجد عند العقاد مالا أجده عند غيره من الشعراء... لأني حين أسمع شعر العقاد أو حين أخلوا إلى شعر العقاد فإنما أسمع نفسي وأخلو إلى نفسي. وحين اسمع شعر العقاد إنما اسمع الحياة المصرية الحديثة وأتبين المستقبل الرائع للأدب العربي الحديث ».ثم أشاد طه حسين بقصائد العقاد ولا سيما قصيدة ترجمة شيطان التي يقول إنه لم يقرأ مثلها لشاعر في أوروبا القديمة وأوروبا الحديثة [بحاجة لمصدر]. ثم قال طه حسين في نهاية خطابه: « ضعوا لواء الشعر في يد العقاد وقولوا للأدباء والشعراء أسرعوا واستظلوا بهذا اللواء فقد رفعه لكم صاحبه ».
مشاركة :