لعل الأبرز في مستجدّات النظرة العلميّة إلى الشيخوخة، هو التشديد على قدرة التفكير الإيجابي المتفائل على تجديد الدماغ نفسه. ومن المستطاع صوغ ذلك المفهوم بالقول إن العقل والنفس (سواء نُظِر إليهما كشيئين منفصلين أو كوحدة متضافرة)، يغيّران في تركيب الدماغ الذي يفترض أنهما «يصدران» عنه، أو ينطقان بواسطته، أو «يتماهيان» مع أنسجته وتراكيبه. مهما تفاوتت النظرة إلى الدماغ والعقل والنفس، بات واضحاً لدى علماء الدماغ أن التفكير الإيجابي والنظرة المتفائلة والأحاسيس الإيجابيّة والتواصل المنفتح مع شبكة من الأصدقاء والأقارب والمعارف، تملك القدرة على تجديد الدماغ. ويلخص المختصون ذلك الأمر بعبارة وجيزة: «وفق ما يكون العقل، يكون الدماغ أيضاً»! وتستند تلك العبارة إلى دراسات موسّعة عن العلاقة بين الأحوال النفسيّة والسلوكيّة من جهة، والقدرة على الاحتفاظ بدماغ نشط ومتحفزّ كأنه لا يغادر عمر الشباب. وتشدّد دراسات امتدت منذ سبعينات القرن العشرين على أن التقدّم في السن لا يُفقد الدماغ قدرته على صنع توصيلات جديدة، بل حتى إنشاء مراكز بديلة لما يتعرض لعطب أو عطل. وفي أوقات سابقة، اعتقد العلماء بأن الدماغ يفقد تلك القدرة مع كرّ السنين، ما يعجّل سيره نحو الخرف وتواهن القدرات المعرفية والسلوكيّة. وفي سياق مشابه، جمع البروفسور نورمان دويدج، وهو مختص أميركي في علوم الأعصاب، كمية وافرة من الدراسات عن قدرة العقل في التأثير في تركيبة الدماغ، بل تجديدها وإمدادها ببدائل عما تفقده. ووضع دويدج عرضاً عن تلك الدراسات في كتاب يدل عنوانه على موضوعه: «الدماغ الذي يغيّر نفسه» التركيز أولاً في المنحى عينه، ركّزت بحوث كثيرة على أهمية التفاؤل والتعامل المرن والإيجابي مع الحياة، والقدرة على التواصل مع البشر، باعتبارها سلوكاً في العقل يعطيه القدرة على التأثير إيجابيّاً في الدماغ. وهناك منحى آخر فائق الأهمية، تتفق عليه مجموعة كبيرة من علماء الأعصاب والطب النفسي، يتمثّل في الأثر الإيجابي لممارسة التأمّل المتنبّه أو المتيقّظ، في أداء العقل والدماغ معاً. ولم يتردّد البعض في وصف الأمر بأنه مفهوم «ثوري»، خصوصاً أنه تبلوّر في تقارير ظهرت السنة الفائتة وبداية السنة الحالية، عن دراسات استمرت منذ سبعينات القرن الماضي، إضافة إلى دراسات حديثة شملت الجامعات والثانويات وحتى المدارس الابتدائيّة. إذاً، تسير «ثورة التيقّظ» بقوة في أميركا، بل يبدو أنها تستجيب إلى تطلّع واسع إلى حدّ أن أحد الكتب الحديثة التي تشرح تلك الثورة يحمل عنواناً يوحي بآفاق واسعة: «نحو أمة متيقّظة». في العام 1979، عقب تخرّجه عالِماً من «معهد ماساشوستس للتقنيّة»، ابتدأ البروفسور الأميركي جون كابات زِينن تطوير تقنية «خفض التوتر بالاستناد إلى التيقّظ». جاء زِنن إلى ذلك المعهد الذائع الصيت، بنصيحة من والده الذي كان أستاذاً أكاديمياً متخصّصاً في بحوث جهاز المناعة. ودرس الابن زِينن علوم الجينات والخلايا، ثم انجذب إلى فلسفة الـ «زِن» الشرقية المعروفة. وبعد أن انغمس في دراسة الفلسفة أكاديميّاً، لاحظ زِينن أن تلك الفلسفة المشهورة تفتقد إلى الأساس العلمي. وفي المقابل، أدرك أن ممارساتها في التأمّل لا تعدم صلة بالبحوث العلمية عن الدماغ. وبذا، ولِدَت لدى زِينن فكرة للجمع بين تيارين كبيرين ومنفصلين، بل متعارضين ومتعاكسين. لماذا لا يمكن الاستفادة من تقنية التأمّل، بمعنى تطويرها وتطويعها، من جهة، وإيجاد جسر ما يربطها مع الطب الحديث؟ ومنذ البداية، أسقط زِينن كليّاً كامل التراث الروحي المرتبط بالتأمّل، باعتبار أنه لا يوجد علميّاً ما يسند ذلك التراث وادّعاءاته الفضفاضة. وفي المقابل، إنكبّ زِينن بدأب على ربط ممارسة التأمّل مع التطوّر المستمر في فهم العلاقة بين الجهاز العصبي للإنسان من جهة (خصوصاً الدماغ)، والعمليات الذهنية الأساسيّة كالتركيز والاستيعاب والتقاط التفاصيل وغيرها.
مشاركة :