د. محمد فراج أبو النور* فجأة، قفزت جمهورية أرمينيا الصغيرة المنسية وسط جبال جنوب القوقاز إلى قلب اهتمام وسائل الإعلام العالمية، بعد انتفاضة جماهيرية واسعة اجتاحت الجمهورية السوفييتية السابقة، وأطاحت برئيس الوزراء، سيرج سركيسيان، الذي يتمتع حزبه بالأغلبية في البرلمان، بعد أقل من أسبوعين من انتخابه (في 13 أبريل/نيسان الماضي).تزعّم الانتفاضة الصحفي الشاب (42 سنة نيكول باشينيان) رئيس أحد أحزاب المعارضة الصغيرة، وهو حزب «العقد الاجتماعي» الذي يشكل مع حزبين صغيرين آخرين كتلة صغيرة بدورها ضمن أحزاب المعارضة اسمها كتلة (يبلك Yeblk أو المخرج ولها 9 مقاعد في البرلمان). ومع ذلك فإن الجماهير الغاضبة تطالب البرلمان بانتخاب رئيس للوزراء، وتطورات الأحداث تشير إلى أن هذا سيحدث فعلاً، لأنه المخرج الوحيد من الأزمة السياسية المحتدمة في أرمينيا.وكانت الأزمة الحالية قد تفجرت بسبب انتخاب البرلمان لسيرج سركيسيان زعيم حزب الأغلبية (الحزب الجمهوري) رئيساً للوزراء، الإجراء في حد ذاته يبدو عاديا، (زعيم الأغلبية رئيس للوزراء)، ولكن ما ليس عادياً هو أن سركيسيان كان رئيساً للجمهورية لولايتين متتاليتين مدتهما عشر سنوات (2008 - 2018) وهو الحد الأقصى المسموح به للرئيس بالبقاء في السلطة، لكن سركيسيان - الذي لا يرغب في التخلي عن السلطة - أجرى استفتاء عام 2015 حول تعديل الدستور، بحيث تتحول أرمينيا من جمهورية رئاسية إلى جمهورية برلمانية مع انتهاء ولايته الثانية هذا العام (2018)، وبموجب هذا التعديل تنتقل رئاسة السلطة التنفيذية والقيادة العليا للقوات المسلحة إلى رئيس الوزراء، وتصبح رئاسة الجمهورية منصبا بروتوكوليا شرفيا لا أكثر. لهذا السبب تفجر الغضب الشعبي حين انتخاب البرلمان سركيسيان رئيسا للحكومة، الأمر الذي أجبره على تقديم استقالته خلال أقل من أسبوعين، وترشح نيكول باشينيان للمنصب، لكن حزب الأغلبية صوّت ضده، فحصل على (45 صوتا)، مقابل (55) - (عدد مقاعد البرلمان 105 ويحتاج الفوز بالأغلبية إلى 53 صوتا) علماً بأن الحزب الحاكم لم يجرؤ على ترشيح ممثل له في هذا الاقتراع الذي تم يوم 1 مايو/أيار الجاري. لأن هذا لو حدث لكانت قد نشبت أزمة دستورية مستعصية، حيث إن 55 صوتاً كانت كافية لانتخاب رئيس وزراء ينتمي إلى حزب الأغلبية الذي يشتعل الشارع ضده، مطالبا بانتخاب باشينيان رئيسا للحكومة، وهو ما حصل يوم الثلاثاء.الاهتمام الكبير الذي حظيت به الأزمة السياسية في أرمينيا يرجع إلى ارتباطها الوثيق بروسيا، وعضويتها في منظمة «معاهدة الأمن الجماعي».. وهي حلف عسكري تقوده روسيا، ويضم معها كلاً من أرمينيا وروسيا البيضاء، وكازاخستان وطاجيكستان وقيرغيزستان من الجمهوريات السوفييتية السابقة، كما أن أرمينيا عضو في (الاتحاد الأوراسي)، وهو منطقة تجارة حرة تقودها روسيا أيضا، وتضم كلا من أرمينيا وروسيا البيضاء وكازاخستان وقيرغيزستان، وتملك روسيا قاعدة عسكرية كبيرة غرب أرمينيا، بالقرب من حدودها مع تركيا. ومعروف أن سركيسيان (المستقيل) تربطه علاقات وثيقة بروسيا، بل إن هناك من يسمونه «بوتين أرمينيا» في محاولة لتشبيه تجربته بفترة تولي بوتين لرئاسة الوزراء في روسيا، بعد فترتين رئاسيتين، مع تولي ميدفيديف لرئاسة الجمهورية، ثم عودة بوتين للترشح للرئاسة مجددا، والواقع أن الحالتين غير متشابهتين، فبوتين لم يغير الدستور وإنما احترم نصوصه، وانتقل لمنصب رئيس الوزراء.ومن ناحية أخرى فإن سنوات حكمه اتسمت بانتشار وتغلغل الفساد، وتزوير الانتخابات، وتدهور الاقتصاد، ومستوى معيشة الشعب، وزيادة نسبة الفقر من (27.6%) حين تولى الحكم عام 2008 إلى (29.8%) عام 2016، وزيادة نسبة البطالة لأكثر من (17%) عموماً، وأكثر من ذلك بكثير بين الشباب.ولعل هذا ما دفع بعض الأقلام في الغرب لاعتبار انتفاضة الشعب الأرمني نوعا من (الثورات الملونة) وقارن بينها وبين الأحداث في أوكرانيا في فبراير/شباط 2014، متصوراً أنها ستأخذ بالضرورة منحى معادياً لروسيا، خاصة أن (باشينيان) نفسه وآخرين من زملائه في كتلة (يبلك) تحدثوا عن ضرورة التوجه نحو الاتحاد الأوروبي، ومعروف أن الاتحاد الأوروبي يجر وراءه حلف «الناتو» كقاعدة، كما أن (باشينيان) كانت له تصريحات حول تحسين العلاقات مع أمريكا والاتحاد الأوروبي، وبالتالي فقد تحمس الإعلام الأمريكي والغربي للانتفاضة الشعبية، وتحدثت «واشنطن بوست» الأمريكية عن «ثورة الرقص والغناء» في تشبيه لما يجري في أرمينيا (بالثورات الملونة) المعادية لروسيا. وبديهي أن موسكو نفسها من الطبيعي أن تنظر بحذر للتغيير في قمة السلطة في بلد حليف والإطاحة بحليف قديم لها مثل سركيسيان. لكن التسرع في الاستنتاجات أو عقد مقارنات سطحية، يمكن أن يقود إلى أخطاء كبيرة في التحليل. وقبل كل شيء ينبغي أن نتذكر أن (الجغرافيا قدر) يصعب الفكاك منه، فأرمينيا دولة داخلية لا تطل على أية بحار، وتجاورها من الغرب تركيا، العدو التاريخي للشعب الأرمني (قصة المذابح والاحتلال الطويل.. الخ) والتي لديها مطالب قديمة في أجزاء من غرب أرمينيا، كما تجاورها من الشرق أذربيجان التي استولت أرمينيا على حوالي (ربع) مساحتها بما فيها إقليم «ناجورنو كاراباخ» أثناء الحرب بينهما في النصف الأول من التسعينات من القرن الماضي، وباختصار فإن أرمينيا محاطة (بأعداء تاريخيين) من الشرق والغرب، أما من الجنوب فهناك إيران حليفة روسيا، والعدو اللدود للولايات المتحدة، وأحد أهم مصادر واردات الطاقة وطرق وصول الواردات إليها، علماً بأن أرمينيا نفسها صغيرة المساحة (29 ألف كم مربع)، كما أن أكثر من ربع تجارتها الخارجية مع روسيا، التي تتولى أيضا حراسة حدودها الغربية مع تركيا.وواضح أن كل ذلك يختلف تماما عن أوضاع أوكرانيا ذات الحدود المفتوحة على دول أوروبا الشرقية والبلطيق، وكلها أعضاء في «الناتو»، وذات السواحل المطلة على البحر الأسود، ولا وجه للمقارنة بينها وبين أرمينيا من هذه الجوانب كلها، ولا من حيث السكان والمساحة والموارد.لهذه الأسباب كلها، نلاحظ أن المظاهرات ضد سركيسيان لم ترفع شعارا واحدا معاديا لروسيا، واستجاب الطرفان كلاهما لدعوات موسكو للتهدئة وتسوية الخلافات في إطار الدستور والقانون.أما (باشينيان) فقد أكد بمختلف الصياغات، وفي مناسبات عديدة أن «روسيا تظل حليفنا الاستراتيجي» مع حرصنا على استمرار وتحسين علاقتنا بإيران والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، وأكد أن عضوية أرمينيا مستمرة في كل من «منظمة معاهدة الأمن الجماعي» - الحلف العسكري مع روسيا و«الاتحاد الأوراسي» منطقة التجارة الحرة مع روسيا وغيرها من الدول السوفييتية السابقة.. كما أكد أن «الشعب لم يطالب بتغيير السياسة الخارجية» وأن ثورته هي ضد الاستبداد والفساد وسوء الإدارة والفشل الاقتصادي.والواقع أن هذه التصريحات لا تبدو مجرد كلام للاستهلاك الوقتي، فبحكم الجغرافيا وبحكم التاريخ والمصالح المادية الرئيسية المباشرة، يصعب على أية قيادة أرمينية واقعية ومتزنة أن تبتعد عن موسكو اللهم إلا في حدود ضيقة للغاية. *كاتب ومحلل سياسي مصري. خبير في الشؤون الروسية
مشاركة :