أن يفاجئنا فيلم فيقدم ما لا نتصوره عن البلد الذي جاء منه أو عن الفنان الذي قدم قصة حياته، فهذا أمر تكرر مرات عدة، لكن أن يفاجئنا العمل من عدة جهات، أولها مكن اسمه، ثم مخرجه ثم حياة الشخصية التي قدمها وتجلياتها وصعابها، فهذا ما لفت الأنظار كثيراً إلى فيلم «آلات حادة»، وكذلك إلى مخرجته نجوم الغانم أحد أهم الأسماء في السينما الإماراتية الصاعدة، والتي تأتي أهميتها من استمرارها في العمل السينمائي بوتيرة سريعة، بواقع فيلم كل عام تقريباً، ما بين الوثائقي الطويل والقصير، وكذلك الروائي، هي التي تكتب أفلامها وتنتجها أيضاً، وقبل ذلك تختار موضوعاتها في شكل متفرد يعبر عن علاقة الإنسان بالطبيعة والكون واختياراته التي قد تلهمه القدرة على الإبداع، لكنها مع ذلك قد تبقيه لغزاً غامضاً لدى البعض. نجوم قادمة من خلفية أدبية فقد بدأت علاقتها بالثقافة عبر القراءة ثم كتابة الشعر وإصدار الدواوين. عملت لفترة في الصحافة، ولكنها وجدت نفسها منجذبة إلى السينما كصانعة للأفلام ومخرجة، فذهبت إلى أميركا لتدرس الإخراج، وحصلت على الماجستير أيضاً في نفس التخصص في وقت مبكر جداً بالنسبة لبلدها، وعادت لتدخل عالم السينما بعد أن وجدت رفيق الطريق والحلم وهو الشاعر خالد البدور، فتزوجا، وبدأت تصنع الأفلام متحررة من رفض الأهل دخولها عالم السينما. آلات الفن التشكيلي وفي فيلم «آلات حادة» جاء الاسم من تلك المفردات التي استخدمها الفنان الذي اختارت الغانم تقديم سيرته ومسيرته لتقدمها، وهو الفنان التشكيلي الإماراتي حسن الشريف الذي بدأ حياته برسم اللوحات، ثم اختير ليدرس الفن في فرنسا التي كانت (أم الفنون، في تلك المرحلة، سبعينات القرن الماضي)، لكنه رفض وطالب بأن يدرس في بلد آخر، وذهب إلى إنكلترا، وبدأ يقدم أعمالاً مختلفة تماماً عما كان يقدمه هو نفسه من قبل، وعما كان يقدمه الفنانون الآخرون في الإمارات. فقد اتجه الشريف إلى فن المجسمات التي فتن بها وصارت تشغله بالكامل في إطار المواد المستخدمة فيها كأسياخ الحديد وقطع الأحجار وألواح الخشب والكارتون. كان يرى في هذه الأشياء دلالات واقعية معبرة عن وجهة نظره في الحياة أكثر من أي مواد أخرى، وصدم الجمهور منه في البداية، بل تعجب البعض من هذا الذي سافر للدراسة في أوروبا ليعود يقدم تماثيل ومجسمات من الحديد والكارتون. وفي الفيلم تتابع كاميرا الغانم مراحل عمل وحياة الفنان لحظة بلحظة، تفكيره في المواد التي يحتاجها لعمل جديد وجولاته في موقع العمل الذي يتجاوز بكثير فكرة المرسم عند عموم الفنانين التشكيليين. نحن ها هنا أمام مخزن فسيح وليس غرفة أو صالة مرسم، والتجوال فيه يضعنا أمام وسائل الإبداع لدى الشريف، ممثلة في كتل من الحديد بأشكال مختلفة، وفي زاوية أخرى أحجار، وكراتين، وبلاستيكات، إلى الدرجة التي قد يختلط الأمر على البعض فيعتقد أنه مكان يخص المعماريين ومهندسي الديكور. لكن سوء الفهم ينتهي سريعاً حين يوضح الفنان كل شيء عبر حديثه إلى مساعديه، أو بحثه عن مادة ما، أو روايته لصفحات من جماده مع هذا اللون الفني الذي صدم الآخرين في البداية حين عاد من بعثة قبل أن يألفوه. وتدريجاً تذوب الصدمة وتتحول إلى شغف بما قدمه ويقدمه. حيث تركت المخرجة المساحة كاملة لبطلها ليروي حكايته مع الفن، ومع الزمان، ومع الوحدة. فهو لم يتزوج بل عاش ليتحقق فنياً لسنوات طويلة وكانت الكاميرا هي النافذة له إلى مشاهديه داخل الإمارات، وخارجها، ونافذة لنا لنظل على عالمه المتفرد، فقد كانت لديه ترجمة لكل فكرة وحرف وعمل قدمه أو حاول تقديمه، وفي حواره مع المخرجة التي وقفت وراء الكاميرا تشبعنا عالماً استثنائياً لفنان آمن بفنه فقط، وعاش من أجله واستطاع أن يدخله عالم الآخرين فيصدقونه، وهو ما يقدمه الفيلم في جزئه الثاني الذي بدأ فيه حضور الجمهور لمشاهدة أعماله واضحاً... باختصار تمكن «آلات حادة» أن يطرح عالم الفن التشكيلي في جانب استثنائي منه، متوجاً بحياة فنان صنع لنفسه طريقاً جديداً في الفن داخل بلد صاعد يبدأ طرق أبواب الفن الأكثر شيوعاً وانتشاراً، ولكن حين تم إنجاز الفيلم، وأصبح جاهزاً للعرض، رحل حسن الشريف متأثراً بالمرض الخبيث فأصبح الفيلم وثيقة تخلده، وتخلد زمناً استطاع فيه أن يتمرد ويجرب ليقدم ما يريده بكل شجاعة وثقة. وربما كانت تلك المعاني جزءاً من أسباب حصول «آلات حادة» على جائزة مهرجان الإسماعيلية السينمائي الدولي للسينما التسجيلية والقصيرة الأخير في فرع الفيلم التسجيلي الطويل، لـ (84 دقيقة) لتصبح جائزته الثانية بعد الأولى التي حصل عليها في دبي العام 2017 من «مهرجان الفيلم الخليجي». ومن المؤكد أن الفيلم حصل على جائزته بعد معركة حقيقية بسبب وجود عدد من الأفلام المتنافسة في المسابقة.
مشاركة :