لا نجادل في أن رمضان شهر الفضائل والصيام، الشهر الذي تكفّر فيه الذنوب وتفتح فيه الجنان وتغلق أبواب النيران، شهر الصدقات والزكاة وكل أعمال الخير، تصفّد فيه الشياطين وتتنزل الملائكة.. إلى آخره من الفضائل التي تميّز هذا الشهر عن غيره من الشهور كمسلمات دينية وإن لم تصادق عليها أخلاق الناس في أفعالهم وأقوالهم، والتي لو أمعنا النظر في معانيها الرائعة وقارناها بواقعنا على المستوى الاجتماعي القريب ومحيطنا العربي بشكل عام، لسقطت داخلنا أسئلة كالحجارة الثقيلة داخل كيس بلاستيكي خفيف لا يمكنه حملها. أسئلةً تحدث دوياً يبعث من داخلنا حيرة تبدو الإجابة عليها صعبة جداً، لأن واقع الحياة «الرمضانية» على المستويين الشخصي والمجتمعي تكاد تكون بعيدة كل البعد عن الاستشعار الحقيقي لما يتميز به رمضان عن أشهر السنة عدا الأشهر الحرم، وقد يمثل الشهر الأسوأ في حياة الناس من حيث العادات التي تواطأنا عليها لا أدري كيف! بحيث وضعته في أزمة روحانية وأخلاقية لا تناسب قيَمه، ما أوجد له صفة مختلفة أخرجته عن سياقه الديني الصحيح، فما أن يبدأ الشهر تنقلب حياة الناس رأسا على عقب ويصبح الليل نهارا والنهار ليلا، ينام الناس فيه نهارا يقضون ليله بالسهر والسمر، يتقلبون بين الموائد المتنوعة بإسراف لا يقبله الذوق الإنساني العام ولا يتماشى مع أخلاق الإسلام المتضمنة في رمضان، فبحسب تحقيق «العربية نت» قدر إنفاق الأسر السعودية في رمضان بما يعادل إنفاق ثلاثة أشهر، بنسبة تتراوح بين 150 و200 في المئة، مدفوعة بحملة إعلانية تقدر بـ1.6 بليون ريال، ما أخرجه من قدسيته ليبدو هذا الشهر الأسوأ بين كل الشهور المتميزة بالاستقرار والاعتيادية، ثم نتساءل إن لم يكن الشيطان - لكونه مصفّداً في الأغلال - هو من أغوى الإنسان للانسياق خلف شهواته في رمضان فمن يكون؟ ألم تكن ملائكة هذا الشهر كافية لاحتلال تلك المساحات التي تركها الشيطان في أرواح الناس وعقولهم وأجسادهم ثم نسأل: هل حقا صفدت الشياطين؟ إذن، من يعبث بحياة الناس ويفسد عليهم شهرهم إن لم يكن هو؟ تقولون شياطين الإنس. إذن، المعنى انقلب رأسا على عقب، لم يعد للشيطان التأثير الأكبر على الإنس مادامت شياطينهم حلّت شفرة الإفساد ودمّرت حياتهم، أما ملائكة الإنس فلن يصل إليهم لحصانتهم الإيمانية المضمونة سلفا. هذا المعنى يجب أن نتوقف عنده قليلا ولا نسلم به على إطلاقه، دعونا نتصفح قليلاً حياتنا الرمضانية، كيف شكلها ولونها حتى نفهم موقع الشياطين والملائكة من الإعراب داخل هذه المعمعة، لن أتحدث كثيرا عن الاحتراب الذي يقع في مناطق من عالمنا العربي الذي ظل ثابتا مع كل شياطينه ممعنا في القتل والتدمير بلا شفقة أو رحمة لم يتوقف أواره في رمضان ولا غيره، حتى في الأشهر الحرم التي عظمت خطيئة الظلم فيها، بدءا من الأوقات المهدرة في رمضان، إلى ضعف وتيرة العمل، إلى النوم الطويل للهرب من جوع البطون المتخمة، إلى الاستهلاك المبالغ فيه للسلع والبضائع، إلى السهر بلا طائل، قد تكون المجتمعات غير مسؤولة تماماً عما اقحمت فيه حتى تحول إلى عادة رمضانية، من المسؤول إذن؟ ربما تبدو الحكاية قديمة إلى حد ما، تبدأ منذ أن اقتحمت الانماط الاستهلاكية الجديدة حياة الناس ومن خلفها آلة إعلامية خطفت الأبصار وأذهلت العقول مع خمسينات القرن الماضي، ليتحول معه رمضان - بلا أدوات تحكم مؤسسي تضبط صيرورته - إلى شهر للهو والعبث، نستثني من ذلك استثمار جماعات الصحوة له تحديدا لاستقطاب الشباب وضخ الاهتمامات الجديدة من خلال أنشطة رمضانية معدة جيدا بما يحقق أهدافهم في المدارس والمعاهد والكليات، وقد نجحت في ذلك أيما نجاح حتى أسست بناءً عليهم قواعدها وغرست داخل أرواحهم اتجاهاتها التي كشف أخيرا غاياتها وأهدافها، ألم يكن الشيطان يسكن تفاصيلهم أيضا؟! عدا ذلك، ظلت حياة سواد الناس الرمضانية هامشية لا ثراء فيها معرفي يذكر، السؤال: هل سنستمر على هذا المنوال؟ أليس ثمة أدوات ضبط اجتماعي بما في ذلك الإعلام ومؤسسات المجتمع المدني لوأد هذا الفراغ العبثي الرمضاني، وإعادة صياغة الشهر الفضيل بما يخدم روحانيته ويعكس قيمة؟ ألم نفكر يوما باستثمار المرافق الكبيرة المجهزة لتقديم بعض البرامج النافعة، فماذا لو قامت مجالس البلديات بتصميم برامج للشباب والفتيات لتتبع فقراء الأحياء والمحتاجين وإيصال بيانات كاملة عنهم إلى الجمعيات الخيرية، وبرامج أخرى تعنى بالصحة العامة والحفاظ على البيئة وملاحقة المخالفين؟ ولم لا تقوم المدارس بتصميم برامج تثقيفية توعوية رمضانية للأسرة، وتقديم برامج خاصة بالفتيات لتعليمهن بعض المهارات التي يفتقرن إليها من أجل بناء أسرة صحية وسليمة؟ هناك أشياء كثيرة تعمل لانتزاع الناس من حالة التسمر أمام شاشات التلفاز ومعلباته الإعلانية الاستهلاكية الفاسدة، ثم ماذا لو قدمت جمعيات الثقافة والفنون والأندية الأدبية برامجها الخاصة بالشهر بعيدا عن المحاضرات والندوات التقليدية المملة، هل يا ترى ستجد الشياطين طريقا إلى الناس، بعدما صفدت عمليا بهذه البرامج التنويرية والتثقيفية الخلّاقة!
مشاركة :