الإنسان كائن اجتماعي، لا تكتمل إنسانيته إلا بإنسانية الآخرين، لذا يبحث المثقف عن سعادة الآخرين قبل سعادته وإن دفع حياته ثمنًا لها. والمثقفون هم صنف من الناس أكثر علمًا من غيرهم، فوجب عليهم أن يقدموا علمهم للآخرين لينتفعوا به. وقيل العلم نور، وجاءت كلمة التنوير كثيرة الاستخدام من هذا النور، النور الذي يضيء في الظلام وإن كان دامسًا. والكلمة أصبحت واسعة الانتشار الآن في مختلف مجالات الكتابة، بما فيها الصحافة؛ لأننا في هذه اللحظة التاريخية نعيش في ظلمة وجهل وتخلف دمر حياتنا، ولخروجنا من هذا النفق لا بد من التنوير، فالجهل أكل الأخضر واليابس وأفسد حياتنا، والتهم ما تبقى لنا من عقول وخلفنا في نهاية الركب العالمي الذي يسير بسرعة قياسية، فكلما تأخرنا عن ركب العالم المتحضر إتسعت المسافة وضاقت الخيارات. المثقفون إذن لهم دور بالغ الأهمية الآن من أجل التغيير. التغيير الى الأفضل لا إلى الأسوأ، فهناك تغيير يرجع بنا الى الوراء، وغالبًا ما يقوم هذا التغيير على أيدي الجهلاء وما أكثرهم. التغيير الذي لا يقود المجتمع الى التقدم، والى الأمام لا جدوى منه. وكان وزير الدعاية السياسية في عهد هتلر جوزيف غوبلز يقول: (كلما سمعت كلمة مثقف تحسست مسدسي)، فلماذا يخاف هذا النازي من المثقفين الى هذه الدرجة؟ غوبلز يعرف أن المثقفين يبعدون الناس عن أفكاره السيئة التي تدمر الحياة. يتحدث المفكر الإيطالي الشهير غرامشي عن أهمية المثقف العضوي الذي يؤثر في المجتمع ليرفعه الي الأفضل، فالمثقفون ليسوا سواسية، فهناك مثقفون سلبيون ينفذون بجلدهم ويتوخون السلامة، وشعارهم (السلامة غنيمة)، وهناك كثر من هؤلاء، فالمثقفون في الدول المستبدة يتعرضون لغضب السلطة، وحين ذاك يفقدون الكثير من المنافع علي المستوى الشخصي، وربما تعرضوا لأنواع مختلفة من الأذى، أقلها قطع الرزق والإهمال والتهميش، فالدول المستبدة تخشى التقدم فهو يعرض مصالحها للخطر، وهو يفقدها شرعيتها المزيفة. وهناك مثقفون يأخذون مكانًا أسوأ، فيقفون مع الاستبداد الذي يخير المثقفين بين السيف والذهب. هؤلاء يذهبون الى جنة الاستبداد وذهبه، وهؤلاء تكبلهم الأنانية وتذوب ضمائرهم عند رنين المال، ذلك الذي يصرع الرجال. وهؤلاء يهدمون ما يبنيه المثقف العضوي، فهم يزيدون الجهلاء جهلاً، وهم يكذبون، ويزيفون الحقائق، ويتلونون، ويطرون النظام الاستبدادي، ويكيلون له المديح، ويبررون أفعاله السيئة، وبكل هذا يهدمون ولا يبنون، يسيرون بالمجتمع الى الوراء لا الى الأمام. هؤلاء يحظون برضا السلطة، وينالون المناصب الرفيعة والمكاسب الكثيرة، ويصبحون نجومًا وأقمارًا سيارة في الوسط الاجتماعي ويظهرون في الواجهات والمنابر فهم أبطال العصر. هؤلاء أيضا يخدعون السلطة ويقودونها الي الدمار والنهاية، إذ لا تعرف هذه السلطة عيوبها ونواقصها، فتحت أستار المدح والإطراء والنفاق تختفي كل مشاكل المجتمع التي تكبر في الخفاء وتتزاحم، ثم تنفجر في النهاية. في الدولة الديمقراطية تتغير الأمور ويتقارب المثقفون والسلطة، إذ يجمع الاثنين هدف واحد هو تطوير المجتمع، واتباع مصلحته العامة، وإنجاز رغباته وتطلعاته. يتحدث إدوارد سعيد عن المثقف الرسولي الذي يحمل رسالة سامية، يسعي خلالها إلى الخير العام. وعادة ما يقف المثقفون مع الحق والعدالة والحرية والأهداف الأخلاقية السامية. هكذا هم منذ فجر التاريخ منذ سقراط اليوناني قبل الميلاد الى بيرتراند راسل الذي يقول عن المستبدين: (انهم يخافون الأفكار أكثر من أي شيء آخر، الأفكار هي الشعلة المضيئة للعالم). في القرن الثامن عشر، اشتهرت في فرنسا قضية الضابط درايفوس الذي ظلمه القضاء وأصدر ضده حكما قاسيا، فكتب عنه الروائي أميل زولا في الصحف، ثم رفع المثقفون الفرنسيون عريضة وقعها كبار الكتاب والمثقفين في ذلك الوقت، فأطلق سراح الضابط درايفوس، واشتهرت هذه الحادثة التاريخية بصفتها سجلا رائعا لدور المثقفين في المجتمع. في العصر الحديث، في فرنسا أيضا، يذكر أن عصر التنوير وما قبله شهد قوة من الكتابات التي توجهت الى نشر الاستنارة والأفكار التقدمية التي أسست أوروبا الحديثة، نذكر منهم فيلسوف الحداثة رينيه ديكارت (أنا أفكر إذن أنا موجود)، لكي يكون لك وجود لا بد أن تفكر، وتفكر جيدًا، وهناك فيلسوف التنوير عمانويل كانت، وجان جاك روسو وفولتير، ورهط كثير آخر. في القرن العشرين يخرج المفكر سارتر على رأس تظاهرات الطلبة الشهيرة في باريس من أجل التغيير السياسي والتعليمي والاجتماعي في العام 1968. الثورة الفرنسية 1789 قادتها النخبة المثقفة من البورجوازية الصغيرة. في اليونان تحجز السلطة الاستبدادية السابقة الشاعر العالمي يانيس ريتسوس المجدد في الشعر. بابلو نيرودا يقاوم فيزيائيًا وشعريًا نظام بينوشيه الإرهابي المستبد الذي جاءت به المخابرات المركزية الأمريكية. المغني والموسيقار عازف الجيتار فكتور جارا تقطع الدكتاتورية في شيلي يده في العام 1973 لكي لا يعزف ويغني أغاني التغيير. وهناك أمثلة كثيرة يصعب حصرها في هذه المقالة الصغيرة. الأحزاب العربية يقف في طليعتها المثقفون من البرجوازية الصغيرة، جورج حبش وميشيل عفلق وغيرهم. غسان كنفاني مناضلاً وروائيًا ومحمود درويش يناضل بالقصائد والشعر. في الغرب لعبت الكتابات الروائية دورًا بارزًا في التغيير والتنوير. وفي مصر كانت كتابات طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم تضيء عقول الناس. وكانت روايات نجيب محفوظ تنتقد السلطة وتنشر الاستنارة من أجل التغيير. كان لرفاعة الطهطاوي والكواكبي ومحمد عبده والأفغاني دورًا كبيرًا في تجديد الفكر الإسلامي في بدايات النهضة العربية. في العصور الوسيطة يرسل الأديب المثقف ابن المقفع رسالة الى الخليفة العباسي أبوجعفر المنصور يقدم فيها النصح للخليفة وينتقد فقهاء السلطة المروجين للطاعة للخليفة الذين يقولون بعدم جواز محاسبة الرعية للخليفة وللولاة ، كما يتحدث في هذه الرسالة عن البطانة الفاسدة والفساد في الدولة، فيأمر الخليفة أبوجعفر المنصور بتنور ويأمر بتقطيع جسد المصلح المثقف ابن المقفع جزءًا جزءًا وإلقاء أجزائه في النار أمام عينيه حتى الموت. في اليونان القديمة، يقف الفيلسوف سقراط أمام القضاء بتهمة إفساد عقول الشباب والترويج للآلهة الأجنبية، فيحكم عليه القضاة بشرب السم حتى الموت، وكان سقراط يدعو الشباب الى التفكير الحر، واستخدام العقل قبل الاقتناع وعدم التسليم للأفكار دون الحجاج والمناقشة. كل هؤلاء العلماء والكتاب والفلاسفة كانوا روادًا للتغيير للأفضل، كانوا يحملون أفكارًا منصفة وعادلة في ميزان العقل والمنطق، وقد خلدهم التاريخ مصلحين أناروا درب الإنسانية.
مشاركة :