الإنجازات العلمية، وجه من وجوه الحضارة، والعلوم لا بد لها من تاريخ، إذ إنها لا تنشأ بمعزل عن جهود الأمم السابقة، ولا تتطور مستغنية عن إسهامات الرواد الأُوَل، ومن أجل أن نتطور علينا دراسة من سبقونا ومعرفة ما وصلوا وتوصلوا إليه لنكمل الطريق مستعينين بكل اكتشاف علمي جاء بعدهم. "ابن الهيثم".. ولد في البصرة وعمل فيها فترات متقطعة زار خلالها الأهواز وبغداد، ثم ترك الوظيفة وتفرغ للتدريس والتأليف، كانت الحركة الفكرية في عصر ابن الهيثم ناشطة، فكثرت الترجمات العلمية إلى العربية، وقد درس ابن الهيثم ما حصل عليه من كتب الأقدمين، وعمد إلى تلخيصها وشرحها، فتعددت مقالاته ومصنفاته حتى بلغت حوالي ثلاثة وأربعين كتابًا في الفلسفة والعلم التطبيقي، فضلًا عن كتاب في الطب لخص فيه ثلاثين كتاب لجالينوس، لكن أشهر كتب لابن الهيثم هو "المناظير"، والذي يضم سبع مقالات هي: 1- في كيفية الإبصار بالجملة. 2- المعاني التي يدركها البصر وعللها وكيفية إدراكها. 3- أغلاط البصر فيما يدركه على استقامة وعللها. 4- كيفية إدراك البصر بالانعكاس عن الأجسام الصقيلة. 5- مواضع الخيالات. 6- أغلاط البصر فيما يدركه بالانعكاس وعللها. 7- كيفية إدراك البصر بالانعطاف من وراء الأجسام المشفة المخالفة لشفيف الهواء. ومن أهم آراء ابن الهيثم في علم البصريات أنه كان الاعتقاد أن الإبصار يتم بخروج عناصر من العين أو شعاع على شكل مخروطي يصب على الشيء المرئي ليحدث الأبصار، أما ابن الهيثم فقد قال إن الإشعاع أو الضوء نوعان، يصدر أحدهما عن الأجسام المضيئة بنفسها كالشمس والنار، ونوع عرضي يعكس ضوء غيره كالقمر والمرآة، وقال إن الأشياء تعكس النور وتصيب العين فيحدث الإبصار، وإلا فلماذا لا ترى العين وهي سليمة في الظلام؟ ومن تجاربه الرائدة أنه أتى بوعاء زجاجي كبير فيه حليب ووضعه في غرفة مظلمة كثر فيها الغبار، ثم أدخل إلى الغرفة شعاعًا من الضوء عبر ثقب صغير، فتبيَّن له أنه إذا وضع وعاء الحليب في طريق الشعاع انكسر الشعاع عند سطح السائل ومال نحو القعر متخذًا طريقًا أقصر مما لو كان الوعاء مليئًا بالهواء، وكان من السهل رؤية الشعاع في الغبار وفي الحليب. كما أنه استطاع وصف أجزاء العين وطبقاتها بالتجربة، لتبيان عملها في نقل صور المرئيات إلى الدماغ. وقد أصاب في وصف العين تمامًا ونقلت عنه تسميات أقسامها إلى اللغات الأجنبية. لم ينل ابن الهيثم شهرة كبيرة في الشرق لإنجازاته العلمية، ربما لقلّة من استفاد منها، وقد عُرف أكثر بأخباره المروية في التطبيب وبمغامراته السياسية، أما في الغرب فقد عرفوا قيمته منذ القرن الثالث عشر، ونقلوا عنه معجبين مؤكدين عبقريته في العلوم البصرية، فقد تأثر به وكتب عنه "فيتلو" في رسالته عن الضوء، وكذلك "بايكون" في بحوثه الفلسفية والعلمية، وكثيرون وردت أسماؤهم وكتبهم في الموسوعات العالمية. وترجمت كتب ابن الهيثم الى اللغات العبرية والإنجليزية والفرنسية مرات عديدة. وكان ابن الهيثم من أكبر العلماء في الشرق والغرب وقد أخذ عنه الفلكي العظيم "كيبلر" ما توصّل إليه من اكتشافات في علم البصريات، خاصة ما يتعلق بتكسير الأشعة الضوئية في الجو.
مشاركة :