صفحات من تاريخ العلوم بالحضارة العربية.. ابن باجة وعلم الإنسان (9)

  • 5/26/2018
  • 00:00
  • 4
  • 0
  • 0
news-picture

كثير من العلماء يطلق على فلسفة ابن باجّه اسم «علم الإنسان»، فقد كان جل ما تناوله فيها يبحث في ميدان الإنسان، والفكرة الأساسية التي أضافها إلى التراث الفلسفي هي ما يتصل باتحاد العقل الفعّال بالإنسان. وابن باجة هو أبو بكر محمد بن يحيى بن الصائغ التُجيبي السرقسطي. أول مشاهير الفلاسفة العرب في الأندلس اشتغل أيضا بالسياسة والعلوم الطبيعية والفلك والرياضيات والموسيقى والطب. وقد تميز في الطب خاصة واشتهر به، توفي في فاس المغرب، مسموما سنة 529 هـ. وُلِد ابن باجة في سَرَقُسطة في الثغر الأعلى من الأندلس، وألمّ بثقافة عصره، وعلوم اليونان، واشتهر بتميزه في الفلسفة والطب والموسيقى، ونظم الشعر. عمل ما يقرب من عشرين عامًا كاتبًا ووزيرًا لأبي إبراهيم بن تيفلويت المَسوفي صهر علي بن يوسف بن تاشفين، وأخباره معه كثيرة. وبعد وفاة ابن تيفلويت عام 510هـ/1116م، وقيل بعد سُقوط سرقسطة بيد ألفونسو الأول ملك أرغون عام 512هـ/1118م، غادر ابن باجّه سرقسطة إلى جنوبي الأندلس، فسكن المريّة وغرناطة وارتحل إلى فاس، وفيها اتُّهم بالإلحاد ومات مسمومًا. كان بينه وبين بعض أعلام الأندلسيين خصومة شديدة، ومن هؤلاء ابن زهر، (ت557هـ/1162م) والفتح بن محمد بن خاقان (ت528هـ/1134م). وقد حمل عليه ابن خاقان حملة عنيفة في كتابه «قلائد العقيان» واتهمه بالإلحاد. كان ابن باجّه أول الواقفين في الأندلس والمغرب على فلسفة المشائين فشرح قضاياها، ومهد الطريق لمن جاء بعده، ومنهم ابن رشد (ت595هـ/1198م) الذي تضمن كتابه «النفس» بعضًا من آراء ابن باجّه، واعترف بفضله في حقل الفلسفة. ومن أشهر تلامذة ابن باجّه أبو الحسن علي بن الإمام وابن رشد. كثرت اهتمامات ابن باجّه العلمية، فتعلق بالموسيقى، وتذوّقها كأستاذه الفارابي، ثم مال إلى المنطق والفلسفة والطب والرياضيات والطبيعة والنفس وترك فيها رسائل وكتبًا، وقد ذُكر منها «في عيون الأنباء في طبقات الأطباء» سبعة وعشرون عنوانًا يغلب عليها طابع التكرار والشذرات والتعليقات، من أهمها: ـ رسالة الوداع: وجهها إلى تلميذه علي ابن الإمام السرقسطي قبيل رحلته إلى المشرق وتحدث فيها عن غاية الوجود الإنساني في تجاوز حدود الفردية والاتحاد بالنفس الكونية، ثم الاتصال بالله الذي لا يكون إلاّ بالعلم والفلسفة. نشرها المستشرق الإسباني ميجيل آسين بالاثيوس مع ترجمة إسبانية عام 1943م بمدريد. ـ تدبير المتوحد: ويعني بالتدبير ترتيب الأفعال نحو الاتحاد بالعقل الفعّال والمتوحد هو الفرد، وتحقيق وجود الفرد هو الخطوة الأولى في صلاح المجتمع وتضامنه. حقق الرسالة معن زيادة ونشرت في بيروت 1978م. ـ شرح كتابي الأدوية المفردة للطبيب اليوناني جالينوس (ت201م) وللوزير الأندلسي العالم ابن وافد (ت467هـ/1067م). اللذين يأخذان بمبدأ العلاج الطبيعي بالأغذية بدلًا من العقاقير الطبية، وبالأدوية المفردة بدلًا من المركبة، وقد انتفع بهذا ابن البيطار (ت645هـ/1248م). ـ شرح السماع الطبيعي لأرسطو، ويدور على المبادئ الكبرى لعلم الطبيعة. وتذكر المصادر العربية أن أقدم ترجمة لهذا الكتاب ترجع إلى عصر هارون الرشيد (170-193هـ/786-809م). فقد ذُكر في الفِهرست للنديم تحت عنوان: أسماء النَقَلة من اللغات إلى اللسان العربي: سلام الأبرش من النقلة القدماء أيام البرامكة، ويوجد بنقله «السماع الطبيعي». هذه المؤلفات ذات قيم غير محدودة، وقد أشاد ابن طفيل (ت581هـ/1185م) بعمق تفكير ابن باجه فقال في مقدمة «حي بن يقظان»: «ثم خلف من بعدهم (يقصد المهتمين بالمنطق والفلسفة في الأندلس) خلفٌ أحذق منهم نظرًا، وأقرب إلى الحقيقة، ولم يكن فيهم أثـقب ذهنًا، ولا أصدق رؤية من أبي بكر بن باجّه، غير أنه شغلته الدنيا حتى اخترمته المنية قبل ظهور خزائن علمه وبثّ خفايا حكمته». وعمد ابن باجة إلى العودة بالفلسفة إلى أصولها الأرسطية خالصة كما هي في كتب أرسطو مبتعدا عن أفكار العرفان والأفلاطونية المحدثة فكان بذلك أحد أفراد تيار تجديدي أندلسي حاول فصل الأفكار العرفانية التي اختلطت كثيرا بالفكر الإسلامي والذي بدأ بمشروع ابن حزم الذي عمد إلى تأسيس منهج العودة إلى الأصول واستبعاد القياس في الفقه واستأنف بعد ابن باجه بابن رشد الذي عمد إلى فصل نظام البيان الفقهي عن نظام البرهان الفلسفي. بمصطلح آخر فصل الدين عن الفلسفة كأنظمة استنتاجية وربطهما عن طريق الغايات والأهداف.

مشاركة :