محمد العريان*تعزز الإحساس بالتفاؤل خلال عام 2017 الذي كان عاماً استثنائياً بكل المقاييس سواء من حيث أرباح الشركات أو نشاط أسواق المال في تحد واضح لكل التحديات الجيوسياسية. وحققت الأسهم العالمية مكاسب تجاوزت 20% مستفيدة من نشاط غير مسبوق.فاجأت مستجدات انفصال بريطانيا عن الاتحاد الأوروبي وفرض تعرفة ترامب الجمركية و تعثر اقتصادي الأرجنتين وتركيا وتباطؤ النمو في الاقتصاد الصيني وتهديد الانفجار المالي في إيطاليا وعوامل أخرى، خبراء الاقتصاد وصناع القرار والشركات والمستثمرين خلال السنتين الماضيتين. وهناك ميل لاعتبار كل حالة نتيجة طبيعية لتطورات محلية لكن تبعات ذلك الميل ستحول دون التعامل معها بما تتطلبه من حلول. وقد يكون هناك ما يبرر النظر في التعامل مع كل حالة بمعزل عن الأخرى.لكن مخاطر التغافل عن الخيط الذي يربطها ببعض أكبر وأعمق من أن تهمل.ولا شك أن تفاقم تلك التبعات سيزداد في ظل التباين الصارخ في سياسات تحفيز النمو في الاقتصادات المتقدمة خاصة السياسة الأمريكية التي تسبق أشواطاً. وكلما تعمق فهم العالم لهذه الحقيقة صار تعامله مع المفاجآت أسهل. وفي حال تحركت الحكومات والشركات بنشاط وقوة أكبر صار احتمال تجنب معظم تلك الأزمات أفضل.ولم يخطر ببال أحد أن تتطور الأمور بهذا المنحى.فخلال السنوات العشر التي تلت الأزمة المالية العالمية وخرَّبت الكثير من البنية الاقتصادية في العالم ووضعتها على مسار ركود طويل الأمد،بذلت جهود متتالية لصيانة النظام المصرفي وتقليص فرص انتقال العدوى منه إلى كامل الاقتصاد. وقد وفَّرت سياسات البنوك المركزية الاستثنائية الوقت الكافي لمعالجة الجراح.وارتفع الوعي حول الأضرار التي تسببت بها سنوات من الانتعاش الهش ونسب النمو الجزئي المحدودةعلى أفق الأداء الاقتصادي الذي تمزقت بنيته وتآكلت معها الثقة بالمؤسسات وغذَّت الغضب الجماهيري.وأخيراً تشكلت قناعة مشتركة غير عادية بين خبراء الاقتصاد حول الحاجة الماسة لسياسات الخروج من معدلات النمو «الطبيعي الجديد» المخيبة للآمال.وتعزز الإحساس بالتفاؤل خلال عام 2017 الذي كان عاماً استثنائياً بكل المقاييس سواء من حيث أرباح الشركات أو نشاط أسواق المال في تحد واضح لكل التحديات الجيوسياسية.وحققت الأسهم العالمية مكاسب تجاوزت 20% مستفيدة من نشاط غير مسبوق لعدة سنوات.وحقق المستثمرون مكاسب في مختلف أصناف الأصول بما فيها السندات الحكومية التي عادة ما تسير بعكس اتجاه الأسهم.وحدث كل ذلك في غياب تام للتذبذب أو في الحد الأدنى منه. وفي نفس الوقت سجلت أرباح الشركات أرقاماً قياسية مانحة الشركات كميات سيولة هائلة لتعيد شراء الأسهم أو توزع على مساهميها أو تتحرى صفقات الاندماج والاستحواذ وتوسيع برامج استثماراتها.وتصاعد الشعور بالتفاؤل عام 2017 بعد ظهور مؤشرات في أكثر من مكان إلى انتعاش في معدلات النمو.وبما أن الظاهرة وصفت بالراسخة والذاتية الدفع،فقد كان المأمول منها أن تؤسس لبيئة نمو جديدة أكثر شمولية معززة بقرارات سياسية داعمة في كل دولة على حدة وبالتالي تطوير مستويات التنسيق بين الدول بما يضمن تحمل كل طرف مسؤوليته قبل أن يفوت الأوان.إلا أن التطورات الأخيرة كشفت عن وجود شروخ في هذه الصورة الوردية.فقد توقفت العديد من عوامل الدفع وآلت إلى عوامل تعطيل وتخريب.وفي الوقت الذي قد تشكل بعض تلك المستجدات مفاجأة إلا أن الصورة الكلية ينبغي ألا تفاجئ أحداً خاصة في ظل عدد من العوامل. أولها استعادة الثقة تستغرق وقتاً. على الرغم من التطورات الإيجابية لا يزال هناك نقص كبير في الثقة.ولعل أبرز معالم ذلك النقص ما تشهده الحركات المناهضة للمؤسسة من تطور بدءاً من الانفصال البريطاني مروراً بانتخاب دونالد ترامب وأخيراً الانتخابات الإيطالية، ثم تآكل الثقة بما يقوله «أهل الاختصاص» من المحللين والخبراء.ومثل هذه الظواهر تؤكد عزم الناخبين القضاء على كل ما له صلة بالنظام القديم القائم الذي لم يضمن مصالحهم ففقد مصداقيته.عامل آخر هو ضعف الثقة الذي ينتج صعوبات في تحقيق الإجماع السياسي حتى حول أهم القضايا الاقتصادية التي تتطلب موافقة الحزبين في الولايات المتحدة مثلاً ومنها مشاريع تحديث البنية الأساسية. أما في الدول التي تطرح فيها المفاوضات لتشكيل حكومة جديدة كما في إيطاليا وبريطانيا،أسئلة حول مدى التزام الحكومة بالاتحاد ومنطقة اليورو، فيبقى الرأي العام حبيس قضية رئيسية واحدة ما يجعل التعامل مع التحديات التي يفرضها الوضع العالمي منسية. وفي هذه البيئة يعشعش الغضب السياسي.ويعقِّد غياب الفعل السياسي كل الأمور. فلقد كان عجز الفعل السياسي بارزاً في عدد من المجالات. والولايات المتحدة هي الدولة الوحيدة التي تبنت إصلاحات متعددة تضمن معدلات نمو ثابتة.وقد رحبت الشركات الأمريكية بقوانين خفض الضرائب وساهمت الإشارات التي صدرت عنها فيما يخص توسيع استثماراتها في تنشيط سوق العمل.أما خارج الولايات المتحدة فقد أدارت السياسات ظهرها للوقائع على الأرض.ولهذا بدأ التناسق في تنشيط النمو الاقتصادي على الصعيد العالمي في التبعثر.أما على الساحة الأوروبية فبدا أن الانتعاش الذي تحقق جاء نتيجة عملية علاج طبيعي أكثر منه نتيجة سياسات راسخة.ومن هنا كان صعباً استدامته وارتفعت حدة القلق بشكل خاص بسبب الوضع في اليونان وإيطاليا حيث لايزال معدل الناتج الإجمالي المحلي أدنى مما كان عليه قبل سنوات الأزمة وأعلى بقليل مما كان عليه عند التحاق الدولتين بمنطقة اليورو واعتماد العملة الموحدة.وفي الاقتصادات الناشئة قد تكون مؤشرات الانتعاش مجرد عوارض مؤقتة أكثر منها اختراقاً حقيقياً.ففي البرازيل خفتت حدة النمو الذي انتعش بعد إقالة ديلما روزيف رئيسة البلاد،وفي روسيا كان الانتعاش رهناً بانتعاش أسعار النفط الخام. وحتى في الهند هناك شكوك حول قدرة الطفرة التي سببتها صدمة سحب العملات من التداول على الصمود لوقت أطول.*كبير المستشارين في شركة أليانز
مشاركة :