مع بداية عام 2018، نرى الاقتصاد العالمي ينمو بمعدلات متسارعة. وفي العدد الجديد من تقريرنا عن مستجدات آفاق الاقتصاد العالمي رفعت تنبؤات النمو الاقتصادي العالمي إلى 3.9 في المائة في عامي 2018 و2019، وهو ما يشكل هذا نسبة 0.2 نقطة مئوية عن تنبؤات تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، و0.2 نقطة مئوية عن تقديرنا الحالي للنمو العالمي في العام الماضي. هي أخبار سارة بالطبع. لكن القادة السياسيين وصناع السياسات يجب أن يتذكروا أن الزخم الاقتصادي الحالي يعكس حشدا من العوامل التي لا يرجح أن تدوم طويلا. وقد يبدو أن الأزمة المالية العالمية قد غادرتنا بالفعل، ولكن دون تحرك عاجل لمعالجة معوقات النمو الهيكلية، وتعزيز احتوائية النمو، وبناء الصلابة وهوامش المناورة التي تتيحها السياسات، فسيحدث الهبوط الاقتصادي التالي في وقت أقرب ما نتصور وستكون مواجهته أكثر صعوبة. وينبغي لكل حكومة أن تسأل نفسها اليوم ثلاثة أسئلة. أولا، كيف يمكن رفع الكفاءة الاقتصادية ومستويات الناتج على المدى الأطول؟ ثانيا، كيف يمكن أن ندعم الصلابة والاحتوائية مع الحد من احتمالات انتهاء الانتعاش الاقتصادي الحالي بتباطؤ مفاجئ أو حتى أزمة جديدة؟ ثالثا، كيف يمكن أن نضمن وجود أدوات السياسة التي نحتاج إليها لمواجهة الهبوط الاقتصادي المقبل؟ لننظر أولا أين نحن الآن؟ وكيف نرى الاقتصاد العالمي على المدى القصير؟ لا تزال أوروبا وآسيا أهم المصادر لتسارع إجمالي الناتج المحلي حتى الآن، مع تحسن الأداء أيضا في الولايات المتحدة وكندا وبعض الأسواق الصاعدة الكبرى، ولا سيما البرازيل وروسيا اللتان شهدتا انكماشا في 2016، وتركيا. وسيستمر جانب كبير من هذا الزخم على المدى القصير. وسيسهم التشريع الضريبي الأمريكي الأخير مساهمة ملموسة في نمو الاقتصاد الأمريكي على مدار السنوات القليلة المقبلة، وذلك في الأساس بسبب ما ينص عليه من حوافز استثنائية مؤقتة للاستثمار. وسيكون لهذه الدفعة التي يتلقاها النمو على المدى القصير آثار إيجابية، وإن كانت مؤقتة، على الناتج في البلدان الشريكة تجاريا للولايات المتحدة، ولكن من المرجح أيضا أن تؤدي إلى زيادة عجز الحساب الجاري في الولايات المتحدة، ورفع سعر الدولار الأمريكي، والتأثير في التدفقات الاستثمارية الدولية. ومرة أخرى نجد أن التجارة بدأت تنمو بمعدلات أسرع من الدخل العالمي، مدفوعة جزئيا بزيادة الاستثمارات العالمية، كما بدأت أسعار السلع الأولية تتحرك في اتجاه صاعد، ما يعود بالنفع على البلدان التي تعتمد على تصدير هذه السلع. وفي الوقت الذي تعود فيه الاقتصادات إلى مستوى التشغيل الكامل، تظل ضغوط التضخم مكبوحة ونمو الأجور الاسمية ضعيفا. ومن الملاحظ أن الأوضاع المالية ميسرة إلى حد كبير، مع رواج أسواق الأسهم وانخفاض تكاليف الاقتراض الحكومي طويل الأجل وضِيق فروق العائد على سندات الشركات وجاذبية شروط الاقتراض بالنسبة للأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية. ولم يكن الانتعاش الجاري من قبيل الصدفة. فقد بدأ يترسخ في منتصف 2016 ويرجع الفضل في جانب كبير منه إلى السياسات الاقتصادية الكلية التيسيرية التي دعمت مزاج السوق وعجلت بالتعافي الطبيعي. فالسياسات النقدية ظلت طويلا، ولا تزال، محتفظة بطابعها التيسيري في البلدان الكبرى، وهو ما ترتكز عليه الأوضاع المالية العالمية الميسرة حاليا. وعلى الرغم من أن الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي يواصل رفع أسعار الفائدة بالتدريج، فقد حافظ على منهجه الحذر وجاءت استجابته حكيمة لاضطرابات أوائل 2016 حين أرجأ زيادات أسعار الفائدة التي كانت متوقعة آنذاك. وبدأ البنك المركزي الأوروبي يوقف بالتدريج عمليات شراء الأصول واسعة النطاق، التي أسهمت بدور حيوي في إنعاش النمو في منطقة اليورو، ولكنه أشار أيضا إلى أن زيادات أسعار الفائدة احتمال بعيد. وإضافة إلى ذلك، تحولت سياسة المالية العامة في الاقتصادات المتقدمة على وجه الإجمال من سياسة انكماشية إلى سياسة تكاد تكون محايدة على مدار السنوات القليلة الماضية، بينما قدمت الصين دعما كبيرا من المالية العامة منذ تباطأ النمو فيها في منتصف العقد، ما أحدث تداعيات إيجابية لدى شركائها التجاريين. وفي الولايات المتحدة بالطبع، توشك سياسة المالية العامة على اعتماد وجهة توسعية إلى حد كبير، وهو ما يستتبع آثارا معقدة على الاقتصاد العالمي. أما ما رأينا في هذا الصدد فهو أن الانتعاش الجاري، رغم كونه جديرا بالترحيب، لا يرجح أن يصبح "المعتاد الجديد" وأنه يواجه مخاطر متوسطة الأجل من المرجح أن تزداد بمرور الوقت. وهناك عدة أسباب ـ تظهر إلى حد ما في توقعاتنا للنمو متوسط الأجل ـ نرى أنها تشكك في ديمومة الزخم الحالي.
مشاركة :