معجزة القرآن باقية ومتجددة بتجدد الزمان وتطور الإنسان، والقرآن يخاطب العقل البشري في مختلف مراحله الفكرية، وهذا ما يضمن بقاءه شامخا، وتجدد إعجازه، فالقرآن يسيطر على العقل بما أودع الله فيه من الحقائق، التي لم يدركها العقل إلا بعد البحث الشاق والجهد المضني، فكلما تصور الإنسان أنه حاز قصب السبق في بعض ما توصل إليه، لا يلبث إلا قليلا حتى يعلم أن القرآن سبقه بأكثر من ألف وأربعمائة عام فيما توصل إليه، ويدل على ذلك ما رواه البخاري بسنده عن سَعِيدٌ الْمَقْبُرِيُّ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: مَا مِنَ الأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلاَّ أُعْطِيَ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ، وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إلى فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ أَكْثَرَهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وحينما نطالع أقوال المفسرين لقوله تعالى: وأرسلنا الرياح لواقح. فيقول ابن كثير: عن عبداللّه بن مسعود قال: ترسل الريح فتحمل الماء من السماء، ثم تمر مر السحاب حتى تدر كما تدر اللقحة وكذا قال ابن عباس، وقال القرطبي: لواقح. وهي جمع. ومعنى لواقح حوامل: لأنها تحمل الماء والتراب والسحاب والخير والنفع. قال الأزهري: وجعل الريح لاقحا لأنها تحمل السحاب، أي تقله وتصرفه ثم تمر به فتستدره (أي تنزله) قال الله تعالى: حتى إذا أقلت سحابا ثقالا. الأعراف: 57. أي حملت. ونلاحظ تقارب أقوال المفسرين فيما فسروا به الآية، وزاد الشيخ الشعراوي رحمه الله أمورا أخرى هي: ذلك أن الرياح تُجدّد الهواء، وتُنظِّف الأمكنة من الرُّكود الذي يُمكِن أن تصيرَ إليه. وتلقح النباتات، حتى تكون الثمار، كما تلقح الأرض بنزول المطر فينبت النبات والشجر. فيقول: ونحن لم نَرَ كيف يتم لقاح شجرة الزيتون، أو شجرة المانجو، أو شجرة الجوافة، وذلك لنأخذ من ذلك عبرةً على دِقّة صَنْعته سبحانه. لأن الحق سبحانه جعل اللُّقاحةَ خفيفةً للغاية، لتحملَها الريحُ من مكان إلى مكان. وذلك في الأشجار التي فيها شجر الذكور، وشجر الإناث. وذلك ليتم النفع بالثمار، فسبحان من له جنود السماوات والأرض، وتعرّف العلماء على أن الذكورة بعد أن تنضج في النبات فهي تنكشف وتنتظر الرياح والجو المناسب والبيئة المناسبة لتنقلها من مكان إلى مكان. ولهذا نجد بعضًا من الجبال وهي خضراء بعد هبوب الرياح وسقوط المطر، ذلك أن حبوب اللقاح انتقلت بالرياح، وجاء المطر لتجد النباتات فرصةً للنمو. وقد تجد جبلا من الجبال نصفه أخضر ونصفه جَدْب، لأن الرياحَ نقلتْ للنصف الأخضر حبوبَ اللقاح، ولم تنقل الحبوب للنصف الثاني من الجبل، ولذلك نجد الحق سبحانه قد جعل للرياح دورة تنتقل بها من مكان إلى مكان، وتدور فيها بكل الأماكن. وأما الإعجاز العلمي في هذه الآية: فقد ثبت الآن أن المطر لا تنعقد إلا بذرة من الهباب، أو من الغبار، فالرياح حينما تثير الغبار، ذرات الغبار تنعقد عليها حبات المطر، لأنه أساس المطر، لقد جعل الله من خصائص الهواء، أنه يحمل بخار ماء، حتى يصير مطرا، لكن هذا المطر لا ينعقد إلا بحبات من الغبار، فهذه النظرية ما كانت لتُعرف لولا (هذا القرآن) كلام خالق الكون، وهي دليل أن هذا الكلام كلام الله. وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ. الحجر:22. فالرياح تلقح الأمطار، ويؤكد هذا العلماء والباحثون فيقولون: وقد تبيّن لنا أن المياه نفسها تنشأ من عملية تلقيح، وبه ذكورة وأنوثة. واكتفى القرآن بكلمة (لواقح) نحن قد نفهم تلقح الأزهار أما هنا المعنى: وهو الأمطار الدليل: وَأَرْسَلْنَا الرِّيَاحَ لَوَاقِحَ فَأَنْزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاء. فذرات الغبار، والدخان وذرات الهواء العالقة، هي التي تنعقد عليها حبة المطر، وهذه هي طريقة المطر الصناعي فإنهم يلقحون الغيوم بحبات من الغبار لتنعقد عليها حبات المطر، حتى تثقل فتنزل الأمطار، ومن الملاحظ أن ما توصل إليه العلم الحديث من لقاح الرياح للسحب، هو ما أشار إليه المفسرون القدامى كالقرطبي وغيره، ويفرق المفسرون بين مدلول لفظي الرياح والريح في القرآن، فالقرآن حين يتكلم عن الرياح بصيغة الجمع فهو حديث عن خير ورحمة، كقول الحق سبحانه: وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ بُشْرًا بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ: الأعراف: 57. أما إذا أُفرد وجاء بكلمة (ريح) فهي للعذاب والهلاك، مثل قوله: (وَأَمَا عَادٌ فَأُهْلِكُواْ بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عَاتِيَةٍ) الحاقة:6. إن الحق تبارك وتعالى يلفت أنظارنا وعقولنا إلى التفكر والتدبر في الكون وما فيه من الأسرار. فيقول تعالى: (قل انظروا ماذا في السماوات والأرض وما تغني الآيات والنذر عن قوم لا يؤمنون). يونس:101. إن الماء نعمة عظيمة لا تستقر الحياة إلا به، وجعله الله آية لحياة الأنفس وكل الكائنات. فقال تعالى: (وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون).الأنبياء:30. ولذا فقد لفت الله أنظار العباد إلى قدرته بإنزال الماء من السحاب، ويذكرهم برحمته أنه يرسل الرياح تلقح السحاب لينزل المطر، فتحيا به المخلوقات كلها. فالواجب أن يحافظ المسلم على الماء فلا يفسده أو يبذره أو يحتكره ويمنعه، كما ورد في الحديث: الناس شركاء في ثلاث الماء والكلأ والنار. رواه الطبراني عن ابن عمر.
مشاركة :