ونكمل رحلتنا الأخيرة مع ما اخترته من إبداعات ومحطات الجاحظ الثقافية بكتابه الشهير «الحيوان» فيقول في التخصص بضروب من العلم حيث نقل عما قاله ابو إسحاق كلف ابن يسير الكتب ما ليس عليها.ان الكتب لا تحيي الموتى ولا تحول الأحمق عاقلا ولا البليد ذكيا ولكن الطبيعة، اذا كان فيها أدنى قبول فالكتب تشحذ وتفتق وترهف وتشفي.ومن أراد أن يعلم كل شيء فينبغي لأهله ان يداووه! فان ذلك انما تصور له بشيء اعتراه! فمن كان ذكيا حافظا فليقصد الى شيئين والى ثلاثة أشياء ولا ينزع عن الدرس والمطارحة ولا يدع ان يمر على سمعه وعلى بصره وعلى ذهن ما قدر عليه من سائر الأصناف فيكون عالما بخواص ويكون غير غفل من سائر ما يجري فيه الناس ويخوضون فيه ومن كان مع الدرس لا يحفظ شيئا الا نسى ما هو أكثر منه فهو من الحفظ من أفواه الرجال أبعد.وقال الجاحظ عن جمع الكتب حدثني موسى بن يحيى فقال: ما كان في خزانة كتب يحيى وفي بيت مدارسه كتاب الا وله ثلاث نسخ،وقال ابو عمرو بن العلاء: ما دخلت على رجل قط ولا مررت ببابه فرأيته ينظر في دفتر وجليسه فارغ الا اعتقدت انه افضل منه وأعقل.وتناول الجاحظ امرا مهما في كتابه الحيوان وهو عملية صعوبة ترجمة الشعر العربي فقال: وقد نقلت كتب الهند وترجمت حكم اليونانية وحولت آداب الفرس فبعضها ازداد حسنا وبعضها ما انتقص شيئا، ولو حولت حكمة العرب لبطل ذلك المعجز الذي هو الوزن مع انهم لو حولوها لم يجدوا في معانيها شيئا لم تذكره العجم في كتبهم التي وضعت لمعاشهم وفطنهم وحكمهم، وقد نقلت هذه الكتب من أمة الى أمة ومن قرن الى قرن ومن لسان الى لسان حتى انتهت الينا، وكنا آخر من ورثها ونظر فيها فقد صح ان الكتب ابلغ في تقييد المآثر من البنيان والشعر.وفي باب الترجمة كتب:قال بعض من ينصر الشعر ويحوطه ويحتج له ان الترجمان لا يؤدي ابدا ما قال الحكيم على خصائص معانيه وحقائق مذاهبه ودقائق اختصاراته وخفيات حدوده ولا يقدر ان يوفيها حقوقها ويؤدي الامانة فيها ويقوم بما يلزم الوكيل ويحب على الجري «اي الوكيل»، وكيف يقدر على أدائها وتسليم معانيها والإخبار عنها على حقها وصدقها الا ان يكون في العلم بمعانيها واستعمال تصاريف ألفاظها وتأويلات مخارجها مثل مؤلف الكتاب وواضعه فمتى رحمه الله ابن البطريق وابن ناعمة وابن قر وابن فهريز وثيفيل «وهو احد المترجمين لأرسطو» وابن المقفع مثل ارسطاطليس؟!ومتى كان خالد بن يزيد بن معاوية وهو خطيب وشاعر وفصيح جامع وجيد الرأي وكان أول من ترجم كتب النجوم والطب والكيمياء مثل أفلاطون؟!وعرج الجاحظ على شروط في من يتصدى للترجمة في باب اسماه «شرائط الترجمان» فقال: ولا بد للترجمان من ان يكون بيانه في نفس الترجمة في وزن علمه في نفس المعرفة وينبغي ان يكون أعلم الناس باللغة المنقولة اليها حتى يكون فيهما سواء وغاية، ومتى وجدناه ايضا قد تكلم بلسانين علمنا انه قد ادخل الضيم عليهما لان كل واحدة من اللغتين تجذب الاخرى وتأخذ منها وتعترض عليها وكيف يكون تمكن اللسان منهما مجتمعين فيه كتمكنه اذا انفرد بالواحدة وانما له قوة واحدة فان تلك بلغة واحدة استفرغت تلك القوة عليهما وكذلك ان تكلم بأكثر من لغتين على حساب ذلك تكون الترجمة لجميع اللغات وكلما كان الباب من العلم أعسر وأضيق والعلماء به أقل كان أشد على المترجم وأجدر أن يخطئ فيه ولن تجد البتة مترجما يفي بواحد من هؤلاء العلماء.ان كتاب الجاحظ ليس كتابا عاديا في المكتبة العربية بشكل عام في كتب التراث بشكل خاص، ولا اخفي عليكم اني اخترت القليل من كثير فكل فصل بل وكل فقرة فيها فائدة وهي تستحق النشر لابناء الجيل الحالي، حيث اتمنى ان يوضع في المناهج التعليمية العربية كي تتواصل الاجيال مع موروثها الغني.* كاتب وفنان تشكيلي كويتي
مشاركة :