ونستمر برحلتنا مع الجاحظ أحد أهم رموز تراث الادب العربي وها هو يكتب عن فضل الكتاب فيقول: والكتاب هو الذي يؤدي الى الناس كتب الدين بالشدة والفتحة على الدال، وحساب الدواوين مع خفة نقله وصغر حجمه صامت ما أسكته وبليغ ما استنطقته ومن لك بمسامر لا يبتديك في حال شغلك ويدعوك في أوقات نشاطك ولا يحوجك الى التجمل له والتذمم منه ومن لك بزائر ان شئت جعل زيارته غبا ووروده خمسا وان شئت لزمك لزوم ظلك وكان منك مكان بعضك.ثم اتبع قائلا: «والقلم مكتف بنفسه لا يحتاج الى ما عند غيره ولا بد لبيان اللسان من امور منها اشارة اليد».ويكمل فيقول: والكتاب هو الجليس الذي لا يطريك والصديق الذي لا يغريك والرفيق الذي لا يملك والمستميخ «طالب العرف» الذي لا يستريثك والجار الذي لا يستبطيك والصاحب الذي لا يريد استخراج ما عندك بالملق ولا يعاملك بالمكر ولا يخدعك بالنفاق، ولا يحتال لك بالكذب والكتاب هو الذي ان نظرت فيه أطال امتاعك وشحذ طباعك وبسط لسانك و جود بنانك وفخم ألفاظك وبجح نفسك و عمر صدرك ومنحك تعظيم العوام وصداقة الملوك، وعرفت به في شهر ما لا تعرفه من افواه الرجال في دهر مع السلامة من الغرم ومن كد الطلب ومن الوقوف بباب المكتسب بالتعليم ومن الجلوس بين يدي من انت افضل منه خلقا وأكرم منه عرقا ومع السلامة من مجالسة البغضاء ومقارنة الاغبياء، والكتاب هو الذي يطيعك بالليل كطاعته بالنهار ويطيعك في السفر كطاعته في الحضر، ولا يعتل بنو ولا يعتريه كلام السهر وهو المعلم الذي ان افتقر ت اليه لم يخفرك وان قطعت عنه المادة لم يقطع عنك الفائدة، وان عزلت لم يدع طاعتك وان هبت ريح اعاديك لم ينقلب عليك، ومتى ما كنت منه متعلقا بسبب او معتصما بأدنى حبل كان لك فيه غنى من غيره ولم تضطرك معه وحشة الوحدة الى جليس السوء.وكتب في باب أقوال لبعض العلماء في فضل الكتاب فقال ان ابو عبيدة قال المهلب لبنيه في وصيته: يا بني لا تقوموا في الاسواق الا على زراد او وراق والزراد هو صانع الدروع.وقال ايضا وحدثني صديق لي قال: «قرأت على شيخ شامي كتابا فيه من مأثر غطفان فقال: ذهب المكارم الا من الكتب».وسمعت الحسن اللؤلؤي يقول غبرت اربعين عاما ما قلت ولا بت ولا اتكأت الا والكتاب موضوع على صدري.وقال ابن الجهم: اذ غشيني النعاس في غير وقت نون و بئس الشيء النوم الفاضل عن الحاجة قال فاذا اعتراني ذلك تناولت كتابا من كتب الحكم فأجد اهتزازي للفوائد والاريحية التي تعتريني عند الظفر ببعض الحاجة.وقال ابن الجهم: اذا استحسنت الكتاب واستجدته ورجوت منه الفائدة ورأيت ذلك فيه فلو تراني وانا ساعة بعد ساعة أنظركم بقى من ورقه مخافة استنفادة وانقطاع المادة من قلبه وان كان المصحف- يقصد الكتاب العادي وليس القرأن الكريم- عظيم الحجم كثير الورق كثير الورق كثير العدد فقد تم عيشي وكمل سروري لكني ما رغبني فيه الا الذي زهدك فيه وما قرأت قط كتابا كبيرا فأخلاني من فائدة وما أحصي كم قرأت من صغار الكتب فخرجت منها كما دخلت.وقال في باب السماع والكتابة: فالانسان لا يعلم حتى يكثر سماعه ولا بد من أن تكون كتبه اكثر من سماعه ولا يعلم ولا يجمع الع لم ولا يختلف إليه حتى يكون الإنفاق عليه من ماله ألذ عنده من الإنفاق من مال عدوه، ومن لم تكن نفقته التي تخرج في الكتب ألذ عنده من إنفاق عشاق القيان والمستهترين بالبنيان لم يبلغ مبلغا رضيا وليس ينتفع بإنفاقه حتى يؤثر اتخاذ الكتب إيثار الإعرابي فرسه باللبن على عياله وحتى يؤمل في العلم ما يؤمل الإعرابي في فرسه.* كاتب وفنان تشكيلي كويتي
مشاركة :