ونكمل رحلتنا مع الجاحظ... الذي ما زال أدبه نابضا ومؤثرا في الأدب العربي رغم مرور قرون عدة على وفاته الا ان بصمته ما زالت باقية ما بقي الحرف العربي وعشاقه عبر اجيال متتالية من الباحثين والقراء.وكل من قرأ الجاحظ فانه أدرك انه امام اديب ساخر صاحب دعابة وطرف ونوادر، ولديه مصادر عدة للقصة الطريفة والاخبارة النادرة التي تتناول بعض البلدان وبعض الشخصيات منها ما رواه من ان البخل يدفع بأهل خراسان الى أعجب الحيل وأطرفها من ذلك ما رواه الجاحظ من أن أناسا من اهل مدينة «مروا» اذ انهم لا يلبسون خفافهم «احذيتهم» الا ستة اشهر في السنة فاذا لبسوها في هذه الاشهر الستة فانهم يمشون على صدور اقدامهم ثلاثة اشهر وعلى اعقاب ارجلهم ثلاثة اشهر مخافة ان تنقب هذه النعال.ومن طرائفه انه قيل لبخيل قد رضيت بأن يقال عبدالله بخيل فقال لا أعدمني الله هذا الاسم فقلت له كيف؟ فقال لا يقال فلان بخيل الا وهو ذو مال فسلم الي المال وادعني بأي اسم شئت.ويكمل الجاحظ ليؤكد طبيعة النفس البشرية وحاجة الناس لبعضهم فيقول: «ثم اعلم ان حاجة بعض الناس الى بعض صفة لازمة في طبائعهم وخلقة قائمة في جواهرهم وثابتة لا تزايلهم ومحيطة بجماعتهم ومشتملة على أدناهم وأقصاهم».وقال ايضا:«وجعل حاجتنا الى معرفة أخبار من كان قبلنا كحاجة من كان قبلنا الى اخبار من كان قبلهم وحاجة من يكون بعدنا الى اخبارنا ولذلك تقدمت في كتب الله البشارات بالرسل ولم يسخر لهم جميع خلقه الا وهم يحتاجون الى الارتقاء بجميع خلقه».وقال في موضع اخر:«ولم يخلق الله تعالى أحدا يستطيع بلوغ حاجته بنفسه دون الاستعانة ببعض من سخر له فأدناهم مسخر لاقصاهم وأجلهم ميسر لادقهم وعلى ذلك أحوج الملوك الى السوقة في باب وأحوج السوقة الى الملوك في باب وكذلك الغني والفقير والعبد وسيده».وكتب عن فضل الكتابة فقال: ولولا الكتب المدونة والاخبار المخلدة والحكم المخطوطة التي تحصن الحساب وغير الحساب لبطل أكثر العلم ولغلب سلطان النسيان سلطان الذكر ولما كان للناس مفزع الى موضع استذكار ولو تم ذلك لحرمنا أكثر النفع اذ كنا قد علمنا ان مقدار حفظ الناس لعواجل حاجاتهم وأوائلها لا يبلغ من ذلك مبلغا مذكوار ولا يغني فيه غناء محمودا ولو كلف عامة من يطلب العلم ويصطنع الكتاب الا يزال حافظا لفهرست كتبه لاعجزه ذلك ولكلف شططا و لشغله ذلك عن كثير مما هو هو أولى به وفهمك لمعاني كلام الناس ينقطع قبل انقطاع فهم عين الصوت مجردا وابعد فهمك لصوت صاحبك ومعاملك والمعاون لك ما كان صياحا صرفا وصوتا مصمتا ونداء خالصا ولا يكون ذلك الا وهو بعيد من المفاهمة وعطل من الدلالة فجعل اللفظ لأقرب الحاجات والصوت لأنفس من ذلك والكتاب للنازح من الحاجات فأما الإشارة فأقرب المفهوم منها رفع الحواجب وكسر الأجفان ولي الشفاه وتحريك الأعناق وقبض جلدة الوجه وأبعدها ان تلوي بثوب على مقطع جبل تجاه عين الناظر ثم ينقطع عملها و يدرس اثرها ويموت ذكرها و يصير بعد كل شيء فضل عن انتهاء مدى الصوت ومنتهى الطرف الى الحاجة الى التفاهم بالخطوط والكتب فأي نفع أعظم وأي مرفق أعون من الخط. ويكمل الجاحظ فيقول: فلذلك وضع الله عز وجل القلم في المكان الرفيع و نوه بذكره في المنصب الشريف حين قال «ن والقلم وما يسطرون» فأقسم بالقلم كما أقسم بما يخط بالقلم اذ كان اللسان لا يتعاطى شأوه ولا يشق غباره ولا يجري في حلبته ولا يتكلف غايته الى ان يقول: وكانت الحاجة الى بيان اللسان حاجة دائمة واكدة وراهنة ثابتة وكانت الحاجة الى بيان القلم أمرا يكون في الغيبة و عند النائبة الا ما خصت به الدواوين فان لسان القلم هناك أبسط وأثره أعم فلذلك قدموا اللسان على القلم.* كاتب وفنان تشكيلي كويتي
مشاركة :