مصطفى بيومي يكتب: شفق كهف الماضي والتقوقع في الذات

  • 7/6/2018
  • 00:00
  • 1
  • 0
  • 0
news-picture

على عتبات النص، حيث لوحة الغلاف، تلوح مفاتيح العالم الذي تقدمه مي مختار في روايتها الأولى "شفق". العجوز ذات العينين العميقتين المسكونتين بخليط غامض يسهل الإحساس به وتصعب ترجمة معانيه، الطفلة التي تنهمك في قراءة ما تجهله عن المستقبل المجهول، ماكينة الحياكة التقليدية ومستلزماتها الشائعة، الغرفة ذات النافذة التي لا يتسرب فيها الضوء، الأجواء الداكنة الموحية بالانغلاق والتقوقع.مثل هذا التشكيل الذي توحي به لوحة الغلاف، يكتمل الإحساس به عند التأمل في الإهداء ذي المفردات الدالة، حيث البيت والجدران والدعوات وكوب الشاي وغياب الأم وقسوة الزمن؛ وفي هذا الإطار تنعقد البطولة المطلقة لروح الجدة، الغائبة ذات الحضور الكثيف الطاغي.شفق الوكيل، العذراء التي تتجاوز الخمسين، الرشيقة النشيطة المولعة بعملها المحاسبي، الوحيدة المسكونة بالحزن والإصرار على المقاومة. لا تعرف لها أبًا أو أمًا، فكلاهما يغيب بطريقته: الموت المبكر للأم، وسفر الأب بلا عودة.عندئذ لا تبقى إلا الجدة الصعيدية التي تلعب الدور الأهم في تشكيل شخصية حفيدتها وبناء منظومة القيم التي تحكمها: "زرعت فيها الاعتماد على النفس، والثقة الزائدة، والسعي والمثابرة وراء الأحلام، ومواجهة كل ما يواجهها من صعاب في الحياة بشجاعة وليس الهرب منها".لا تخلو الجدة المحبة من الديكتاتورية والاستبداد والحدة والقسوة، أما الشقة التي تضمهما فإنها تنتمي إلى زمن قديم مندثر، يطغى الحنين إلى استعادته وهيهات أن يُستعاد. الغرفة الأهم هي التي تستقر فيها شفق بعد رحيل جدتها واكتمال دائرة الوحدة، وفي وصف الروائية للحجرة ومحتوياتها، مايمثل الملمح الأهم في العالم الروائي، الموزع بين ثنائية الزمان والمكان، وذروة الالتقاء بين هذين العنصرية تتجسد في صندوق الذكريات الكرتونية، حيث الملابس القديمة وكشكول الرسومات وبقايا الألعاب. لا شيء إلا الصدأ والمرآة المشروخة والإحساس الموجع باقتراب نهاية الرحلة، لكن الأمل قائم لا يتبخر، والمراهنة على حياة جديدة تنهض على مزيج سحري: "سأخلط ملعقة من ذكرياتي مع جدتي، وملعقتين من حلمي، وثلاثة ملاعق من الأمل، وأمزجهم جيدًا أو أتناولهم وأنان في طريقي لتحقيق الحلم".الحلم الذي تراوده يتمثل في "أتيليه" صغير تتحقق شفق من خلاله، ونجاح المشروع وثيق الصلة بالإرادة الحديدية والعمل الدءوب والقدرة الخارقة على التنظيم والإدارة، أما السرطان الذي يحل منذرًا بالموت، فإن الانتصار عليه ليس مستحيلًا، ولا تفكير في الاستسلام لأنيابه المتوحشة: "أنا قوية، سوف أتحدى المرض، لن أبوح بوجعي لأحد، لا أحب نظرات الشفقة ولا أحتاج إلى العطف ولن أستجدي أحدًا".الانتصار على السرطان ميسور شريطة ألا يصل إلى الروح، والإمام الحسين دواء ناجع بالمعنى الذي يتجاوز الإطار الديني الضيق. الحسين عليه السلام ليس رمزًا دينيًا للمقاومة الشامخة النبيلة فحسب، بل إنه أيضًا حياة ممتدة ذات مذاق متفرد، يعرفها حق المعرفة عشاق قهوة الفيشاوي. في الحي الديني الدنيوي، تلتقي شفق مع حبها الأول والوحيد نادر الخطيب، زميل الجامعة الذي يغيب لأكثر من ربع قرن. كان فتى أحلامها يومًا، والجدة هي المسئولة عن الإجهاض المبكر لقصة الحب بفعل تحذيراتها والإلحاح على تكريس المخاوف من الحب: "كانت دائمًا تحاصرني، وكانت جرس إنذار قوي في حال فكرت أن أسمح للمشاعر والأحاسيس أن تعرف طريقي".على الرغم من نجاح شفق في عالم الأزياء، ما يتيح لها فرصة الانتقال إلى مكان أفضل، تتشبث بالمنزل القديم الذي تشهد جدرانه على طفولتها وصباها، وتعبق فيه رائحة الجدة، شبيهة الزعماء الذين يجمعون بين ثنائية الشرق الشائعة المدمرة: الحب والاستبداد.استعادة العلاقة مع نادر متاحة ممكنة، وشراكتهما في العمل تمثل عاملًا إيجابيًا، لكن العذراء الخمسينية تتمسك بفرديتها وتأبى التورط في الاندماج والتواصل. تحب وتقاوم الحب، وتهرول بعيدًا رافضة لاكتشاف ما لا تعرف. يمكن القول إن الحبيب نادر الخطيب شخصية روائية تابعة، وزيجته الفاشلة من الإيطالية التي يلتقيها بعد سفره تفضي إلى الطلاق. ابنته الوحيدة لا تمثل عائقًا أمام البدء في حياة جديدة مع شفق، لكنها تجهض العلاقة مجددًا، والشفاء من السرطان لا يدفعها إلى البحث عن حياة تضم شريكًا، فتمام الوجود أن تبقى وحيدة مكتفية بذاتها: "لن أنسى أنه سعى وراء حلمه في السفر ولم يسع خلفي، بل ولم يسع حتى للبحث عني بعد عودته. نادر يتحرش بالنجاح فقط في حياته، سافر ونجح، وتزوج وأنجب، حقق حلم مكتبه الهندسي، وهو اليوم يريد أن يستكمل نجاحاته بزواجي، ولماذا أكون أنا آخر أحلامه ولا أكون أولها".مثل هذا النمط من التفكير الغرائبي لا يبدو سويًا مقنعًا، وهو في جفافه وميكانيكيته موروث سلبي عن الجدة العنيدة المتسلطة. قد تثق شفق في نادر وتصادقه، لكن الحب شيء آخر، لأنه يعني التخلص من الفردية والتقوقع الذاتي، فهل تملك أن تفعل؟. النجاح في العمل لا يعني التحقق في الحياة، وليس مثل أغنية "سيرة الحب" في التعبير الدقيق عن حالة شفق ومشاعرها، ويتجلى ذلك بوضوح في المقطع الذي يقول فيه مرسي جميل عزيز: "طول عمري بخاف من الحب وسيرة الحب.وظلم الحب لكل أصحابهوأعرف حكايات مليانه آهات ودموع وأنينطول عمري بأقول..لا أنا قد الشوق وليالي الشوقولا قلبي قد عذابه"..............رواية "شفق"، القصيرة المكثفة ذات الصوت الواحد، الناجية من دائي الثرثرة والترهل، تجربة ناضجة تنبئ عن موهبة لابد أن تكتمل وتزداد توهجًا في أعمال قادمة، لكن التقدم المنشود يتطلب الالتفات إلى عناصر ضرورية في البناء الروائي، واللغة في صدارة ما يستدعي الاهتمام. اللغة هنا لا تعني معرفة القواعد النحوية والإملائية، فهذا هين ميسور، بل هي في الابتعاد عن التقريرية والمباشرة، والوصول إلى واحة الإيحاء والإمساك بالدلالة التي تتوافق مع الموقف المراد التعبير عنه. لاشك أن قارئ الرواية يحار عندما يفكر في تجاهل الروائية للتوقف عند اختيار الاسم النادر والاستثنائي، ولابد أيضًا أن يتوقف أمام الإسراف في استخدام الأغنية التي تلعب دورًا مهمًا في الإضاءة، وتظهر أحيانًا كأنها الزائدة غير الضرورية.تبدأ الرواية يوم عيد ميلادها الثاني والخمسين، فماذا عن السنوات الثلاثين السابقة في مسيرة شفق؟!. التواصل قائم مع الطفولة وبواكير الشباب، ثم القطيعة المحيرة قبل الوصول إلى زمن البداية، فهل تخلو السنوات الثلاثون هذه مما يستحق الذكر؟. في رواية قصيرة لا يتطلب الأمر إسرافًا في التفاصيل، لكن التجاهل بدوره ليس مطلوبًا.رواية مي مختار تتخذ من الماضي كهفًا، ويمثل التقوقع الذاتي ملمحًا راسخًا، وتنبأ بأعمال جديدة تغادر الكهف وتبدأ في رحلة الانفتاح على عالم ذي إيقاع مختلف.

مشاركة :