إبداع البوابة|| نَوح الحَمَام.. قصة قصيرة لـإيناس رضا هلال

  • 7/20/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

نزل من سيارته أمام المحكمة، صعد الدرج بخطوات ثابتة، ومن باب قاعة الجلسات أمعن النظر فى قفص الاتهام، اقترب من القفص بخطوات متعثرة وقلب يحاول التأهيل مرة أخرى للحياة، وقف أمامها شامخا كالجبل، فإذا بعينيها تراقباه من وراء الأسلاك، لم ير تلك المقلتين مذ رحيلها عن منزله دون مبرر بعد استيلائها على مبلغ ضخم من المال من عام مضى، وبعد شهور من البحث تمكنت مباحث الإنترنت من القبض عليها بتهمة حملة التشهير التى قامت بها ضد مؤسسته، تشفّ فيها جيدًا عندما رأى دموعها تنهمر فوق خدها مطأطأة الرأس، أسعده هذا المشهد المأساوي، ولم تفلح نظرات التوسل إليه؛ ففعلتها كادت تودى بحياته؛ فقد أصيب بشبه جلطة دماغية إثر معرفته أنها سافرت لترافق حبيبًا لها فى لبنان، اعتصر قلبه حسرة حينذاك، ولم يشعر فى حياته قط أنه لبس ثوب العار إلا فى تلك الأيام، وتمنى لو كانت أمامه ولطّخ يده بدمها؛ حتى يسترد رجولته التى سحقتها بحذائها، ولكنه أسرع بتطليقها بعد عدة أيام من رحيلها.تفاقمت فكرة الانتحار، أقبل كثيرًا على تهشيم رأسه بضربها فى الحائط وود كثيرًا لو أنها تصبح شظايا متناثرة؛ حتى يتخلص من هذا الإحساس اللعين الذى يلاحقه فى كل لحظة كان عاجزًا عن الانتقام منها، ما جعله يقلع عن تلك الفكرة الثأر لكرامته من تلك الشيطانة، ورفع رأسه المعفر بالتراب كما يرى، تحجر الدمع فى عينيه وتملّكه المرض من رائحة الخزى التى كانت تملأ روحه، تغيّر شكله إثر سقوط أسنانه وشعره حتى بدا فى سن الستين، فقد خلّفت وراءها جثة هامدة، وحولته إلى شبح رجل، وحققت مقولتها له: «إذا تركتك سأتركك جثة على قيد الحياة».محكمة..هموا جميعًا بالوقوفحكمت المحكمة على المتهمة بالسجن لمدة عامين مع الشغل والنفاذ ودفع مائة ألف جنيه للمؤسسة،استمع إلى صرخاتها بكل ذرة فى كيانه؛ فقد كان صراخها دبيب روحه فى جسده مرة أخرى، وتلاشى الألم الموجع فى صدره.أدار بصره إليها، فردت بعينين مشتعلتين بحقد وغضب.غادر المحكمة رافعًا رأسه، أوقفته إشارة المرور، تطرق إلى سمعه من سيارة مجاورة له أغنية «سمع بكايا الحجر نهنه وقال مالك، فى حاجة غالية عليك يا شاب ضيعالك، يا حمام بتنوّح ليه؟! قلبت على المواجع...»فمر شريط ذكرياته معها من أول يوم رآها فيه، فقد كان يرقص على تلك الأغنية مترجلًا بجسده المفتول العضلات بين الفتيات الراقصات حوله فرحا بنجاح عملهم الموسمي، فإذا بها تمسكه من يده كالمستغيثة وتجره خارج دائرة الفتيات، وتتوسل إليه بملامحها الملائكية أن يجد لها عملا وسكنا؛ فقد هربت من أهلها وزوجها الذى ضاقت حياتها معهم، وأنها لجأت إليه لأنها على دراية بشهامته من خلال عملها المتقطع، ولرجولته وشهامته وجد لها سكنًا مؤقتًا وتدخل بينها وبين أهلها للإصلاح بينهما.وقبيل مجئ أهلها لردها إليهم، اعترفت بحبها وعشقها له بعد تجاهله أفعالها التى أنبأت عن ذلك.أبى أن يقبلها حبيبة فهى بالنسبة له حالة إنسانية تحتاج المساعدة، فأمسكت السكين، وقطعت شرايين يدها أمامه، وهى تقول«أستلذ الموت بعدك أنت».انحبس الهواء فى رئتيه، كاد يخر مغشيًا عليه من هول المشهد الدموي.حملها بين ذراعيه كطفلته، ركض وهى بين أحضانه، لم يفارقها لحظة وهى فى المشفى على سريرها، كان يتأمل ملامحها كأب.يطعمها فى فمها ويسندها بحنو كأخ، يبكى لألمها بكاء العاشق لألم محبوبته، اقترب من أنفاسها ليستنشق أول أنفاس حب حقيقى له.فتحت عينيها، رأت دموعه وخوفه عليها، أيقنت أنها تغلغلت داخل أوردته، توغلت فى حياته بأكملها واتخذها زوجة بعد تحريرها من قبضة زوجها بمباركة أهلها.اهتمت به كابنها طيلة الثلاثة أشهر التى مكثت فيهم معه، محت ألم اليُتم الذى طالما عانى منه بالرغم من تجاوزه سن الثلاثين، خلقت منه طفلا رضيعا تهدهده كلما لمس ضعفها واحتياجها له، أصبحت شلال نور يتدفق بمزاغل روحه، انغمرا يتبادلان حبهما، خطفته من كل مَن حوله بخفة ورشاقة جسدها وروحها وانطلاقها، فاستلذ الحياة معها، وسكر فى محرابها.فاق من سكرته على هروبها، تاركة خلفها شبح رجل وجثة على قيد الحياة بمعنى الكلمة.صفر رجل المرور وانتهى العرض، انكب على عجلة القيادة كأن رشقة برد ضربته، حاول ترويض دمعه، ولكن انتابته نوبة بكاء حادة كطفل ودّع أمه إلى مثواها الأخير.

مشاركة :