القاهرة - احتفلت مجلة “أيام مصرية” بمرور خمسة وعشرين عاما على تأسيسها بإصدار عدد تذكاري عن نوادر الفوتوغرافيا في مصر. وصادف صدور العدد الأحد، الذكرى السادسة والستين لثورة 23 يوليو عام 1952، والتي تحولت مصر بموجبها من دولة ملكية إلى جمهورية، وتغير المجتمع من ليبرالي منفتح ومتعدد الثقافات إلى مجتمع اشتراكي منغلق، ثم رأسمالي مشوه، ثم خليط بين هذا وذاك، ما طمس الكثير من الملامح الحضارية للمصريين. وقدمت المجلة المستقلة التي تعنى، منذ صدورها، بفكرة النوستالجيا (الحنين إلى الماضي) وتصدر شهريا، صورا نادرة لزعماء ووزراء ومسؤولين وأدباء عبر عقود مختلفة، في محاولة لرسم أسرار الصور وتعبيرات كل شخصية وما يربطها بالشخصيات الأخرى. وكشفت الصور عن قيمة الفوتوغرافيا في عرض الكثير من الوقائع الغامضة، والتي ما زالت محل جدل، دون تزييف أو تجميل. وحملت الصور حقائق ومشاعر خبأتها القلوب، لكن عبرت عنها نظرات العيون وتعبيرات الوجوه. ولعبت الفوتوغرافيا، التي عرفتها مصر مع نهايات القرن التاسع عشر، دورا هاما في كشف حقائق تاريخية ظلت مطموسة لسنوات طويلة، وتصحيح الكثير من الأخطاء الشائعة. وطرحت العديد من التساؤلات حول أحداث تاريخية بعينها كانت محل خلاف وأحيانا تدليس. ويقول أحمد كمالي رئيس تحرير “أيام مصرية”، “التحاور مع الصور التاريخية وربطها بتواريخ التقاطها يساعدان في الوصول إلى معلومات وبيانات ونتائج أكثر دقة من كُتب المؤرخين وشهادات النخب السياسية”. التحاور مع الصور التاريخية وربطها بتواريخ ومعلومات التقاطها أكثر دقة من كُتب المؤرخين وشهادات النخب السياسية وقال في تصريحات لـ”العرب”، “الصور مؤرخ جديد، أكثر حيادية، لأن المؤرخ البشري لن يكتب عن مشاعر الغضب والاستهانة التي يشعر بها الزعماء والسياسيون تجاه بعضهم البعض، ولكن المصور يستطيع الإمساك بها”. وتتضمن هذه المسألة أمثلة مختلفة، منها صورة نادرة للملك فاروق، ملك مصر والسودان (1936ــ 1952) وهو يرتدي الزي البحري، ويقف في مركب صيد ويحمل بيد واحدة سمكة ضخمة يزيد طولها على مترين. وبدت ملابس الملك نظيفة تماما ومرتبة، ولاح وجهه مشرقا وهادئا، ما يعني أنه لم يبذل مجهودا في سحب السمكة الكبيرة. ويؤكد تاريخ الصورة، أنها التقطت بعد حادث 4 فبراير سنة 1942 حين حاصرت الدبابات البريطانية قصر الملك فاروق، وأرغمته على تعيين حكومة خصمه اللدود مصطفى النحاس. ويشير الحوار مع الصورة إلى أن الملك المصري كان يبحث عن مجد شخصي زائف في اصطناع بطولة اصطياد سمكة ضخمة وحملها بيد واحدة. ليظهر وكأن ما عجز الملك عن تحقيقه على أرض الواقع اصطنعه فوتوغرافيا. وعكست صورة أخرى للملك فاروق أيضا وبجواره مصطفى باشا النحاس (1879ــ 1965) زعيم حزب الوفد، وتولى رئاسة الحكومة خمس مرات في العهد الملكي، ويقف خلفهما حيدر باشا وزير الحربية في ذلك الوقت، توترا سيطر على الجميع، وينظر كل مَنهم في اتجاه مغاير للآخر ولا يبدو أيا منهم سعيدا بالتقاط الصورة التي يعود تاريخها إلى ما بعد تولي النحاس رئاسة الحكومة، رغما عن إرادة الملك. تأريخ جديد لبعض الوقائع السياسيةتأريخ جديد لبعض الوقائع السياسية وجمعت صورة نادرة، التقطت عام 1927 سعد باشا زغلول، زعيم ثورة 1919 في مصر ضد الاحتلال البريطاني والشاعر أحمد شوقي، ويبدو الأول مهيبا وهو يرتدي طربوشه ويستند قليلا على عصاه، بينما ينظر أحمد شوقي نظرة مكر إلى المصور، وكأنه يريد أن يقول له إنه على صلة مودة بالزعيم المحبوب، وكأن شوقي الذي حزن لعدم الإنعام عليه بلقب “الباشاوية” من الملك فؤاد، وكان من الألقاب الهامة في مصر آنذاك، يحاول إثارة غيظ الملك، إذ يلتقط صورة له مع الزعيم الشعبي المنافس له. ويرى خبراء في التحليل النفسي للزعماء، أن الفوتوغرافيا معبر يحمل الكثير من التفسيرات، وبات الأمر مهما في الكثير من الدول للاسترشاد بها في وقائع معينة، وأضحى هناك متخصصون في قراءة الوجه للصور القديمة وتحليلها لتكون تأريخا جديدا لبعض الوقائع السياسية. وتؤكد صورة الرئيس المصري الأسبق جمال عبدالناصر التي يظهر فيها متمعناً في صورة له يحملها بيده اليسرى، وعلى وجهه ابتسامة رضا، عمق اهتمامه واعتداده بنفسه، واتساع مساحة الأنا في شخصيته. وبمطابقة مضمون الصورة على خطاباته السياسية يمكن توثيق حالة النرجسية الطاغية عند الرجل. ولعبت الصور جانبا مهما في حياة عبدالناصر، وكان اهتمامه بالصور يتجاوز فكرة الدعاية المباشرة، ولديه شغف بقراءة الشخصيات من خلال صورها. وروى الصحافي الراحل محمد حسنين هيكل، وكان مقربا من عبدالناصر، أنه امتلك موهبة قراءة الشخصيات من خلال الصور، وكان يطلب صورا للأشخاص الذين سيقابلهم ويتفحص وجوههم بدقة وعناية قبل اللقاء. وطلب عبدالناصر تصوير مجلس قيادة الثورة الليبي بعد وصول معمر القذافي للسلطة في سبتمبر عام 1969، وسافر هيكل إلى طرابلس ومعه كبير مصوري جريدة الأهرام في ذلك الوقت، والتقط صورا لكل عضو من أعضاء مجلس قيادة الثورة الليبية لا بغرض النشر وإنما ليقرأها الرئيس بتمهل. صور توثق مراحل سياسية محتلفةصور توثق مراحل سياسية مختلفة ولا يتوقف استخدام الصورة عند كشف الكثير من الوقائع التاريخية فقط، لكنه أصبح طرحا جديدا لأهمية الدور الذي تلعبه الفوتوغرافيا في علم التاريخ، لأن المواقع الإلكترونية باتت تمتلئ بالأخطاء الفادحة في نشر الصور والتعليق عليها بسبب قلة الخبرة وعدم الدقة. وسقطت بعض المواقع الإلكترونية في هفوات كبيرة، أبرزها موقع مؤسسة الهلال الأحمر المصري الذي ذكر واقعة رئاسة الأمير سعيد طوسون للمؤسسة سنة 1951، بينما تم وضع صورة الأمير الأشهر عمر طوسون، وكان قد رحل في ذلك الوقت. وتوجد صور للخديوي عباس حلمي، حاكم مصر (1892ـ 1914) في مواقع كثيرة، باعتباره الخديوي توفيق، حاكم مصر (1879ـ1892) وصور لجمال سالم عضو مجلس قيادة ثورة يوليو بحسبانه صلاح سالم شقيقه. ما قدمته مجلة “أيام مصرية” هو عبارة عن أرشيف متطور متحرك يحافظ على هوية الصورة. ويساهم ذلك في مواجهة الصور التي زيفت عمدا لخدمة أغراض الدعاية السياسية. وقدمت المجلة مفاجأة، مفادها أن الصورة الشهيرة للملك فاروق، وهو على يخت المحروسة يودع المصريين بعد طرده في 26 يوليو عام 1952 كاذبة. وحكى الصحافي محمد شاكر، أنه سأل المصور أحمد سالم المعاصر للملك عن تلك الصورة، فقال إن كافة المصورين مُنعوا من التصوير، بما فيهم مصورو القصر الملكي. ويبدو أن مجلس قيادة الثورة المصرية شعروا بعد ذلك بضرورة توثيق الحدث، واستعانوا بمخرج وممثل أجنبي بعد شهور من الواقعة لتسجيل لحظة مغادرة الملك فاروق وتم تزييف الصور. ووردت واقعة أخرى مشابهة في مذكرات سعد الشاذلي رئيس أركان الجيش المصري خلال حرب أكتوبر 1973، حيث أكد أن جميع صور ومشاهد العبور في الحرب غير حقيقية. وذكر أن دواعي السرية دفعت إدارة الجيش إلى عدم اصطحاب مصورين، وأنه تم تصوير مشاهد مشابهة بعد أسبوع من العبور.
مشاركة :