شهدت العاصمة الفنلندية هلسنكي أول لقاء قمة بين الرئيس الأمريكي «دونالد ترامب» ونظيره الروسي «فلاديمير بوتين»، وهي قمة سبقتها أجواء من عدم الثقة واتهامات أمريكية لروسيا بالتدخل في الانتخابات الرئاسية الأمريكية، فضلاً عن الخلافات حول العديد من الملفات الدولية.. وإذا كان هذا هو وضع العلاقات بين البلدين، فإن العلاقات بين الرئيسين على ما يبدو لم تكن على نفس المستوى من التوتر، بل إن «ترامب» قبل انعقاد القمة حرص على تقديم عدد من المبادرات؛ فوصف بوتين بـ«الذكي جدًّا»، وأعرب أنه يريد مصداقته، كما أنه كان غريبًا أن يصف حلفاءه الغربيين بالخصوم التجاريين للولايات المتحدة في الوقت الذي يدعو فيه إلى عودة روسيا إلى مجموعة السبع. تلك الأجواء التي سبقت القمة التي امتدت ساعتين بين «ترامب» و«بوتين» جعلت نتائج هذه القمة مثار جدل عميق على الساحتين الأمريكية والدولية؛ حيث مال التيار الأغلب من المحللين والسياسيين على السواء إلى اعتبار هذه القمة بمثابة خطأ مأساوي وقع فيه «ترامب» وفي الوقت نفسه «انتصار جيوسياسي لبوتين». ففي الوقت الذي رأت وكالة الصحافة الفرنسية أن «ترامب» توجه إلى هلسنكي عازمًا على بناء روابط شخصية مع بوتين اعتقادًا منه أن العلاقات الشخصية الخاصة كافية لتجاوز المشكلات الدولية المعقدة، ولعل هذا هو سبب وصفه لقاءه بوتين بأنه «نقطة انعطاف» في العلاقات بين البلدين من أجل هندسة سياسة موحدة بين القوتين العظميين لمواجهة التحديات التي تواجههما معًا، وهو ما أشارت إليه صحيفة «نيزافيسيميا غازيتا» من أن «ترامب يريد تأييد الرئيس الروسي في مواجهة الصين والخطر الإيراني». رأى فريق آخر أن الرئيس الروسي روّض «ترامب» بشكل جيد، حتى إن وزير خارجية السويد الأسبق «كارل بيلدت» علق قائلاً إن: «ترامب بدا ضعيفًا لدرجة مقلقة أمام بوتين الذي ظهر متمكنًا من كل شيء»، وهو ما ذهب إليه أيضًا «ويليام بوميرانز»، الباحث في الشؤون الروسية بمعهد «وودرو ولسون» من أن «بوتين لديه سجل حافل بالتلاعب بالناس للحصول على ما يريده، وبالتالي كانت شخصية ترامب غير الجدّية وغير الملمة بالملفات السياسية والاقتصادية الكبرى في مواجهة «كاريزما» بوتين رجل الاستخبارات الذي يحكم روسيا عمليًّا منذ نحو 18 سنة، مواجهة غير عادلة». أما صحيفة «فيلت» الألمانية فقد أرجعت سبب تقارب ترامب مع روسيا إلى ثلاث فرضيات، الأولى: التشابه في سياستهما الخارجية والمصالح العالمية المشتركة، وأنهما يتفقان في نظرتهما لأوروبا، الثانية: أن بوتين لديه أدلة مادية قوية تدين ترامب الذي لديه علاقات وشركات تجارية منذ ثمانينيات القرن الماضي في روسيا ودول الاتحاد السوفيتي سابقًا، تحوم حولها شبهات غسل أموال، والثالثة: أن «ترامب» يعدّ أحد مصادر المخابرات الروسية، وذلك وفق ما قاله الرئيس السابق لوكالة المخابرات المركزية الأمريكية «مايكل موريل» من أن ترامب هو «العميل الخفي» لموسكو. وبعيدًا عن هذا وذاك، فإنه بالنظر إلى تحديد الطرف الذي حصد أكبر فائدة من القمة، يمكن اعتبار أن روسيا قد جنت المزيد من المكاسب، فكما يقول «نيل غاردنر»، الباحث بمعهد «هيرتيدج» الأمريكي، ان بوتين سعى إلى تحسين صورته وكسر العزلة المفروضة عليه بعد ضمه شبه جزيرة القرم، وهو ما نجح فيه، الأمر الذي ذهبت إليه أيضًا «إلينا بولياكوفا» الباحثة في مؤسسة «بروكينجز»، بقولها: «قدم الاجتماع فرصة لكي يظهر بوتين على قدم المساواة مع رئيس الولايات المتحدة»، وكذلك فإنه وفقًا لرويترز، يمثل عقد القمة بالنسبة إلى بوتين اعترافًا من واشنطن بموسكو كقوة عظمى، ومن جانبه قال «أندريه كوليسنيكوف» الباحث في مركز «كارنيغي» الروسي للدراسات إن «بوتين يتعامل مع ترامب ببراجماتية موجهة سياسيًّا، حيث يستفيد من استفزاز نظيره الأمريكي للمعسكر الغربي». وهو التحليل نفسه الذي تبنته «الإندبندنت» البريطانية التي قالت: «لم يستفد أحد مما حصل في هلسنكي سوى بوتين، فالرئيس ترامب لم يكن مستعدًا لهذا اللقاء، أما النتيجة الآن فهي بوتين «1» ترامب «صفر»، أما «واشنطن بوست» فقالت: «حتى لو لم يحصل بوتين على أي شيء ملموس فإنه أحرز نصرًا رمزيًّا عندما وقف على قدم المساواة معه في علاقة تقتضي مسؤوليات خاصة لحماية الأمن الدولي». وتأسيسًا على ما سبق قالت «لوموند» الفرنسية: «إن ترامب خرج من القمة أشبه بحطام سياسي»، وعزز هذا الاستنتاج ما قاله ترامب في المؤتمر الصحفي بعد القمة، والذي أعفى فيه روسيا من أي مسؤولية عن تدخلها في الانتخابات الرئاسية الأمريكية عام 2016، رغم أن المخابرات الأمريكية قد خلصت إلى هذه النتيجة، كما أن ذلك جاء بعد ثلاثة أيام فقط من توجيه «روبرت مولر» الاتهام إلى 12عنصرًا في المخابرات الروسية بقرصنة حواسيب الحزب الديمقراطي. وهنا ننتقل إلى الساحة الأمريكية؛ حيث واجه ترامب عاصفة من الانتقادات من جانب أعضاء الكونجرس والمخابرات ومسؤولين غربيين وصحف أمريكية وأوروبية إذ وصفوه بالضعف أمام بوتين، لدرجة أن قادة في الحزبين الجمهوري والديمقراطي عبروا عن صدمتهم في تشكيكه فيما قالته الاستخبارات الأمريكية، واتهامه الإدارات السابقة بأنها السبب في تردي العلاقات الأمريكية-الروسية، فقال «بول رايان» رئيس مجلس النواب: «على ترامب أن يدرك أن روسيا ليست حليفتنا»، ووصف المدير السابق للمخابرات الوطنية «جيمس كلاير» إذعان ترامب لبوتين بأنه «استسلام لا يعقل»، و«أنه أكبر خطأ في رئاسته»، فيما قال السيناتور الجمهوري «جون ماكين»: «إنه الأداء الأسوأ لرئيس أمريكي»، و«إن القمة خطأ مأساوي»، كما قال مدير وكالة المخابرات المركزية «سي.آي.إيه» السابق «جون برينان» إن تصريحات ترامب أكدت أنه «في جيب بوتين تمامًا»، بل وصل الحد بالنائب الديمقراطي «جيمي جوميز» الى القول: «إن عدم الدفاع عن أمريكا يصل إلى شفير الخيانة»، وذكر النائب في مجلس الشيوخ «تشاك شومر»: «من الخطر أن يكون رئيس بلادنا ضد أجهزة مخابراتنا»، وتساءلت النائبة بمجلس النواب «نانسي بيلوسي»: «ماذا يمسك الروس على ترامب ليفعل هذا؟». وعلى مستوى الصحافة رأت «فايننشال تايمز» أن «أفكار ترامب متطرفة وسيئة وخطرة، فضلاً عن أنها مشبوهة أخلاقيًّا»، واتهمت «نيويورك ديلي نيوز» الرئيس ترامب بالخيانة، ورسمته على صفحتها الأولى ممسكًا بأيدي بوتين بينما يطلق النار على شخصية العم سام»، وفي لندن قالت «ديلي ميرور»: «إن ترامب تحول إلى تابع لبوتين»، أما الـ«نيويورك تايمز» فتساءلت عن اللغز الذي منع ترامب، مثل بقية أسلافه من مواجهة روسيا، وخاصة أنه لم يتردد في مهاجمة حلفائه الأوروبيين. وكان لافتًا أن ترامب عندما حاول إصلاح ما أفسده؛ قائلاً للصحفيين: «إنه يثق تمامًا بأجهزة المخابرات الأمريكية ويدعمها»، واصفًا ما حدث بأنه «زلّة لسان»، لم يمنع ذلك من أن يكون محل انتقاد؛ حيث وصفت صحيفة «نيويورك ديلي نيوز» اعتذاراته بالسخيفة، والمتردد فيما يقوله»، أما «وول ستريت جورنال» فرأت: «انه على الرغم من أن الرئيس الأمريكي قليلاً ما يعترف بأخطائه، لكن تبقى المشكلة أنه لا يدرك طبيعة خصمه، والذي يريد أن يصير صديقًا له»؟ وأبدت الصحيفة مخاوفها من أن «يواصل ترامب العمل مع بوتين في ملفات لا يجيد إبرام الصفقات فيها». وبدورها وصفته «ليبيراسيون» الفرنسية بـ«المتحول غير الثابت على آرائه»، ووصفت تراجعه عن تصريحاته في أقل من أربع وعشرين ساعة بـ«المذهل»، مؤكدة أن سبب ذلك يرجع إلى اتهامه من الطبقة السياسية في بلاده ومعسكره الجمهوري بالخيانة؛ حيث كتب الجمهوري «بوب كروكر» رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الشيوخ على «تويتر»: «لم تعد هناك ضوابط»، مضيفاً: «حان الوقت ليتدخل الكونجرس بشكل أكبر واستعادة حقوقنا»، كما علق السيناتور الجمهوري «ليندساي غراهام: «عدم القيام بشيء سيشكل خطأ سياسيًّا»، مضيفًا أن تدخل روسيا «احتمال من نوع اعتداءات 11 سبتمبر يمكننا الحؤول دون وقوعه»، كما تقدم عضو الكونجرس الجمهوري أيضًا «جيف فليك» باقتراح يعيد التأكيد على قناعة أجهزة الاستخبارات بحصول تدخل روسي، وأن موسكو ستتحمل مسؤولية أفعالها لكن من دون المضي أبعد من ذلك. ولعل هذه الموجة من الانتقادات ما دفع الرئيس الأمريكي إلى الدفاع عن جهوده لبناء علاقة مع نظيره الروسي قائلاً في مقابلة مع محطة «سي إن بي سي»: «في الواقع تفاهمنا على نحو جيّد»، و«عقدنا اجتماعًا استمر أكثر من ساعتين لم يكن توافقيًا طيلة الوقت»، ولم يذكر مزيدًا من التفاصيل، لكنه أضاف: «ناقشنا كثيرًا من الأمور الجيدة للبلدين»، كما دعا «بوتين» إلى زيارة واشنطن لعقد اجتماع ثانٍ بينهما في الخريف، متحديًا بذلك موجة الانتقادات الموجهة إليه، ولعل ذلك يعود إلى ما كشفته استطلاعات الرأي من أن 68% من الجمهوريين في الكونجرس يؤيدون أداءه، وأنهم يفضلون الاستماع إلى شهادة وزير الخارجية «مايك بومبيو» ومستشار الأمن القومي «جون بولتون» اللذين من المفترض أنهما على اطلاع على مضمون المحادثات. وبعيدًا عن هذا الجدل الثائر، فقد توقع عدد من المحللين أن تكون هذه القمة خطوة أولى للحوار في المستقبل بين البلدين؛ حيث قال «أوليفر كارول» بصحيفة «إندبندنت»: «هكذا عمل جورباتشوف وريجان، اتفقا أولاً على آلية نقاش مناسبة، بشكل سمح بتطبيع الحوار، وتغيير المناخ، وتبعت ذلك النتائج الأولية»، مؤكدًا أنه في حال تمت إعادة العلاقات فإنها ستكون خطوة كبيرة للكرملين، الذي عانى من العزلة بسبب «القرم»، وتتمثل بوادر ذلك في موافقة الجانبين على إعادة العمل على مشروع الحد من التسلح الطويل الأمد، الذي يهدف إلى تخفيض مزيد من الرؤوس الحربية النووية لدى الجانبين، وإظهار الرئيس الروسي قدرًا كبيرًا من التعاون في مواصلة ممارسة الضغوط على إيران بشأن الموافقة على إجراء المفاوضات الرامية إلى معالجة الشواغل التي أعربت عنها الولايات المتحدة في قائمة الرغبات المكونة من 12 نقطة، التي نشرها وزير الخارجية الأمريكي «مايك بومبيو». وفي المقابل، رأى آخرون عدم إمكانية تحسن العلاقة بين البلدين؛ فعلى المدى البعيد ستحتاج روسيا إلى الخروج من العزلة الدولية، وهو ما يبدو غير ممكن بالنظر إلى الشروط التي وضعها بوتين، فقد يدعو ترامب إلى رفع العقوبات على روسيا، ولكنه في الواقع لا يستطيع الخروج عن القيم الغربية والنظام القانوني، كما أنه يحتاج إلى موافقة الكونجرس، وهو ما لن يحدث، الأمر الذي رجحه «دميتري ترينين» رئيس مركز «كارنيجي»، بقوله: «هناك شكوك في إمكانية أن يصل الرئيس الأمريكي إلى هدفه».
مشاركة :