«أسطورة سيزيف» لألبير كامو: الانتحار سؤال الفلسفة الأوّل

  • 7/26/2018
  • 00:00
  • 9
  • 0
  • 0
news-picture

حتى وإن كان معروفاً أن رواية الكاتب الفرنسي ألبير كامو «الغريب» هي التي تُقرأ أكثر من أية رواية له، بل تعتبر كذلك واحدة من أكثر الروايات الفرنسية على الإطلاق مقروئية، من المؤكد أن «أسطورة سيزيف» هو كتابه الأشهر. ولكن من دون أن يكون قد قُرئ ولو عُشْر ما قُرئ أي كتاب آخر لهذا الكاتب الكبير. فالأغلبية الساحقة تكتفي دائماً بعنوان الكتاب، أولاً لصعوبته وبعد ذلك لما يعطيه عنوانه من شعور بأنه كتاب عن تلك الأسطورة نفسها، أي عن حكاية ذلك الشخص الذي أمضى كل حياته دافعاً الى أعلى الجبل صخرة ما إن يصل بها إلى القمة حتى تتدحرج من جديد في لعنة أبدية طاولت سيزيف، دافع الصخرة، لأنه حدث يوماً أن أهان الآلهة فكان ذلك عقابه. > هذه الحكاية المعروفة من ساحق الأزمان، هي التي يخيّل إلى عامة القراء أنها موضوع كتاب كامو، لكنهم مخطئون في حقيقة الأمر. بل إن كامو لا يتناول هذه الأسطورة إلا في الفصل الرابع والأخير من فصول الكتاب الذي هو في حقيقة أمره نصّ فلسفي جعل همه الأول الحكي عن وجود الإنسان في الكون، بل حتى عما يفترض كامو أـنه السؤال الوحيد الذي يمكن اعتباره سؤالاً فلسفياً بحق. سؤال الفلسفة المطلق. ولنتوقف هنا عند بدايات نصّ كامو لنتحرى الأمر. فمنذ البداية يخبرنا الكاتب في هذا النص الذي دبجه في العام 1942 ليشكل جزءاً مما يعتبر لديه «حلقة النصوص العبثية» إلى جانب مسرحيتي «كاليغولا» (1938) و «سوء تفاهم» (1944)، ورواية «الغريب» (1942)، يخبرنا أن «ليس ثمة سوى مسألة فلسفية واحدة» تبدو له جدية حقاً، وهي مسألة الانتحار. حيث أن «الحكم على ما إذا كانت الحياة جديرة أو غير جديرة بأن تُعاش، هو الإجابة عن سؤال الفلسفة الجوهري» أما الأسئلة الباقية كتلك التي تتحدث عما إذا كان العالم ثلاثيّ الأبعاد، أو إذا كان للروح تسع مقولات أو دزينة منها، فمن الأمور التي تأتي بعد ذلك. هي مجرد ألعاب. > إذاً إنطلاقًا من هذا التأكيد الذي يأتي هنا ليحدد للفلسفة وظيفة لم يسبق لأي فيلسوف آخر أن طرحها على هذه الشاكلة، يعيد كامو طرح «السؤال الجوهري» رابطاً إياه بفكرة الانتحار متسائلاً: هل أن تحقيق الوجود العبثي الذي نعيشه، أي عبثية الحياة، يصل بنا حقاً الى ما يسمى عادية الانتحار بوصفه حلاً ممكناً لمعضلة الوجود؟ وللإجابة عن هذا السؤال ينطلق كامو مؤكداً أن الجزء الأكبر من حياتنا يتكون من الشعور بالأمل في الغد «بيد أن الغد دائماً ما يقربنا من لحظة الموت». ومن هنا فإن العالم «ما إن يتخلص من رومانسيته المشتركة، حتى يبدو مكاناً غريباً لاإنسانياً وغريب الأطوار». «فالمعرفة الحقيقية مستحيلة، وعقلانية العلم لا يمكنها أن توصلنا إلى تفسير منطقي للعالم... كل الأسئلة المتعلقة بهذه الأمور لا توصلنا إلا إلى كنايات واستعارات عارية من أي معنى». وبهذا فإن العبثية ما إن يُعترف بها حتى تتحول هي نفسها إلى نوع من الشغف «لكنه شغف بالغ الإيلام». > في الفصل الثاني يصل كامو إلى اللحظة التي يقدم لنا فيها نماذج دالّة على عبثية الحياة وذلك عبر التوغل في شرح مسألة دون جوان، زئر النساء الشهير، ثم حكاية الممثل الذي لا يفعل «في حياته سوى متابعة المجد العابر الذي يعيشه في وجود عابر». أما النموذج الثالث الذي يتوقف عنده كامو فهو نموذج المحارب المنتصر الذي يتخلى عن كل وعود الأبدية والخلود لينخرط بكليته في التاريخ البشري الواقعي. أما في الفصل الثالث فيتوقف عند قضية الإبداع نفسه حيث يدنو عميقًا من عبثية ما يقوم به المبدع وعبثية الإبداع الفني بشكل عام. وهو إذ يوضح هذه العبثية يرى أن الوقت قد حان لاستخلاص «الدرس الفلسفي» من كل تلك المقدمات حيث يرى أن أسطورة سيزيف كما نُقلت إلينا من الأساطير الإغريقية كافية لأن توضح القضية برمتها. وذلك لأن استعراض تلك الأسطورة بنسخها وتفسيراتها المتعددة، يبدو ملائماً لإقامة التوازي بين عبثية الحياة نفسها كما استعرضها الكاتب المفكر في الفصول الثلاثة الأولى من كتابه، وبين ما تشير إيه الأسطورة. وينطلق كامو من التساؤل: لماذا أصلاً كان ذلك العقاب من نصيب سيزيف؟ وبماذا هو، أصلاً عقاب؟ > يجيب كامو بأن الآلهة الأولمبية كانت قد حكمت على البطل سيزيف بأن يدحرج صخرته صعوداً بشكل متواصل ليل نهار وفي كل الأحوال والظروف... بحيث أن الصخرة تعود متدحرجة إلى الأسفل ما إن تشارف على الوصول إلى القمة. بالنسبة إلى تلك الآلهة الأولمبية، يقول كامو مفسراً «ليس ثمة ما هو عقاب أقسى من العمل غير المجدي والذي يكون يائساً لا أمل له بالوصول إلى غايته». إنه العبث في أقصى درجات تجليه. وهنا يمعن كامو في بسط الحكاية ليخبرنا أن سيزيف حين بات على وشك الموت أراد أن يمتحن حب زوجته وإخلاصها له، فأمرها بأن ترمي جثمانه من دون ضريح أو كفن وسط الساحة العامة. وهو إذ وجد نفسه إثر رحيله، في الجحيم، أحس بقدر كبير من الغيظ إزاء الطاعة التي يبديها البشر للآلهة، فطلب من بلوتون الإذن بأن يعود إلى الحياة الدنيا كي يعاقب امرأته على طاعتها المطلقة له. فإذن له بلوتون بذلك. لكن سيزيف، ما إن عاد إلى الأرض وذاق طعم الشمس والماء والبحر ودفء الحجارة والظلال الخالدة، حتى استطاب الإقامة ورفض العودة إلى مثواه الأخير. وثار غيظ الأولمب إزاء تصرفه العاصي هذا فاجتمعت وقررت إرسال مركور ليعيده بالقوة إلى حيث ينتظره جبله الشاهق وصخرته الثقيلة. > إن في إمكاننا أن نفهم هنا، ووفق ما يفسّر لنا كامو، أن سيزيف إنما هو البطل المطلق. هو بطل بما يعتمل في داخل روحه من «شغف» ومن «قلق»، كما أن احتقاره الأولمب ومشيئة آلهتها، وكراهيته الموت، وتوقه الدائم إلى الحياة، كل هذا جعله يُعاقَب بعدم القدرة على إنجاز أي شيء حتى منتهاه. وفي هذا المعنى لا تكون دحرجة الصخرة سوى الكناية عن ذلك العجز. «إنها الثمن الذي يجب عليه أن يدفعه مقابل ضروب الشغف التي أراد أن يستجيب لها في هذه الحياة الدنيا». والغريب، كما يلاحظ كامو في هذا السياق، هو أن أسطورة سيزيف وفي مختلف الصيغ التي رُويت بها منذ فجر الوعي الأسطوري الإنساني، لا تقول لنا أي شيء عن الحياة التي يعيشها سيزيف في الجحيم. ففي نهاية الأمر، يعلق كامو بقوله أن «الأساطير إنما وُجدت لكي تحركها المخيّلة». وهنا في أسطورة سيزيف من الواضح أن «الغاية لا تعدو أكثر من أن تضعنا على تماس مع الجهد الذي يبذله الجسد لرفع الصخرة العظيمة والوصول بها إلى ذروة الجبل، ومن ثم مواكبتها وهي تعود إلى الأسفل منزلقة بقوة جبارة لا قبل للبطل بمجابهتها. ولافت هنا كيف أن كامو، إذ يصف بدقة شديدة وبتفاصيل مدهشة ملامح البطل وتشنجات وجهه وتقلبات عضلاته فيما هو يسلك طريق العودة إلى الأسفل راكضاً وراء صخرته محاولاً إعادتها الى الأعلى، يقول لنا بكل وضوح: «الحقيقة أن سيزيف يثير اهتمامي خلال تلك العودة بالتحديد، لا خلال لحظات القوة التي يدفع الصخرة خلالها إلى أعلى. فأنا أرى هنا رجلاً يقترب وجهه من الصخرة إلى أدنى ما يكون بل يبدو ملتصقاً بها، بحيث بات يبدو هو الآخر حجراً حقيقياً... ثم أراه وهو ينزل مجدداً إلى حيث تتجدد مأساته من دون هوادة وهو لا يعرف ما إذا كانت ستتوقف يوماً». ويضيف كامو هنا أن تلك الساعة، ساعة الهبوط «التي تبدو وكأنها ساعة التقاط النفس التي تعود مؤكَّدة كما تعود تعاسة البطل مؤكدة بدورها، هي هي ساعة الوعي». بالنسبة إلى كامو، في كل لحظة من لحظات ذلك الهبوط يبدو سيزيف أقوى كثيراً من تلك الآلهة الأولمبية التي تعاقبه». > ويخلص ألبير كامو في نهاية الأمر إلى أن سيزيف هو البطل الحقيقي لمجرد أنه في ذلك العقاب الأبدي الذي حُكم عليه، تبدّى أقوى كثيراً من تلك الصخرة، وبالتالي أقوى كثيراً من مصيره. فـ «لئن كانت أسطورة سيزيف مأساوية هي كذلك لأن بطلها واع تماماً مصيره». فذلك الوعي هو ما يجعل منه إنساناً وقدرته على التحمل تجعل منه بطلاً.

مشاركة :