لم يخفَ على سامعي البيان الصحافي المشترك بين الرئيس ترامب ورئيس المفوضية الأوروبية، جان - كلود يونكر، أن الصين هي المعنية حين الكلام عن جبه فريق ثالث وممارساته التجارية غير العادلة. والتعاون بين أميركا والاتحاد الأوروبي يفاقم الضغوط والقيود على السياسات الحمائية الصينية. لكن الصين سبق أن سارعت قبل القرار هذا إلى رفع الراية البيضاء، على رغم أنها لم تتلكأ في فرض رسوم جديدة رداً على رسوم إدارة ترامب. غير أن سوق الأسهم الصينية تنهار، وهي هبطت 25 في المئة منذ كانون الثاني (يناير) المنصرم، في وقت تزدهر سوق الأسهم الأميركية وتشتد قوة الدولار الأميركي. وهبط اليوان هبوطاً غير مسبوق في حزيران (يونيو) المنصرم، ويرجح أن يواصل التقهقر كذلك في الشهر الجاري. وتراجعت سندات الشركات الصينية في الأشهر الستة الماضية، وأعلنت بكين برنامج تحفيز جديداً يرمي إلى حث مزيد من الشركات على الاقتراض. وهذه المتغيرات حملت حاكم بنك الشعب الصيني على محاكاة هربرت هوفر [الرئيس الأميركي بين 1929 - 1933 خلال «الانهيار الكبير» (الأزمة الاقتصادية الكبرى)] وإعلان أن أسس الاقتصاد الصيني سليمة؛ وحملت كذلك سن غيوفينغ، رئيس معهد البحوث المالية التابع للمصرف هذا، على القول أن سعر صرف اليوان لن يكون أداة لجبه نزاعات التجارة. ولا شك في أن إضعاف بلد ما سعر عملته هو سلاح تقليدي في الحروب التجارية، واتُهمت الصين أكثر من مرة باللجوء إلى السلاح هذا. وخفض قيمة اليوان بالغ الخطورة في وقت يسع الصين بيع سندات الدين الأميركية التي تملكها، ومقدارها 1.4 تريليون دولار. والامتناع عن سلاح اليوان هو في مثابة إلقاء بكين سلاحها طوعاً. وهذه الخطوة ليست من بنات نبل وميول سلمية، بل من بنات الضرورة. فخفض سعر اليوان يبث الخوف في نفوس المستثمرين فيهربون من السوق الصينية - وهروب رؤوس الأموال هو خطر وجودي على اقتصاد نام، وقد يميط اللثام عن مكامن ضعف اقتصادي مضمرة في نموذج الاقتصاد الصيني، رأسمالية - الدولة، الذي لم يعرف الركود بعد. ومواضع الضعف هذه تتراكم في غياب حركة السوق الناظمة التي تفرض الانضباط في مرحلة الركود. وهشاشة الاقتصاد الصيني لا تخفى المؤشرات إليها في معدلات النمو، وهذه تنخفض على رغم زيادة الدالة المالية والمغالاة في الاستثمار في مجال السلع والعقارات. واحتدام حرب تجارية مع أميركا، قد يرمي الصين في مجهول الركود - وهروب رؤوس الأموال قد يدفعها إلى هاوية انهيار مالي وأزمة كبيرة. فترتفع إذاك معدلات البطالة في اقتصاد لم يسبق أن عرف بطالة تزيد على 4.3 في المئة. وإذا ارتفعت معدلات البطالة، قد تندلع احتجاجات وأعمال شغب. وخطر فرار رؤوس الأموال واقعي. ففي المرة الأخيرة التي خفضت فيها بكين اليوان - وهو انخفاض بدأ في مطلع 2014 وترافق في منتصف 2015 مع فك الارتباط بالدولار والارتباط برزمة عملات - انتهى الأمر بالصينيين إلى خسارة نحوا تريليون دولار من احتياط العملات الأجنبية. وإلى اليوم، لم تعوض هذه الخسارة. ووراء خطوة بنك الشعب المركزي الصيني إلقاء سلاح العملة هو الرغبة في تفادي فرار رؤوس الأموال. وهو اليوم، يقترح على الشركات المحلية تسديد الرسوم الجديدة على السلع الأميركية المستوردة. وتدعو الصين المستثمرين الدوليين إلى الإقبال على سوقها، فهي أعلنت تخفيف القيود عن الملكية الأجنبية في بعض القطاعات. وبدأت بكين تدرك أن الحرب التجارية ليست حرباً فعلية. فالضرر يقع على المشاركين كلهم، وشن مثل هذه الحرب هو في مثابة إلحاق ضرر ذاتي بالنفس. ويُلجأ إلى هذا الضرب من الخطوات إذا كان الضرر الذاتي في سبيل غاية أسمى أو وجيهة. فعلى سبيل المثل، كان سباق التسلح في عهد الرئيس ريغن مع الاتحاد السوفياتي في ثمانينات القرن الماضي، عبئاً ثقيلاً أرخته أميركا على كاهلها. وتبين أن الولايات المتحدة قادرة على هذا الحمل أكثر من السوفيات الذين أصابهم الانهيار، ففازت واشنطن بالحرب الباردة. والأغلب على الظن أن يقيض لأميركا الفوز في الحرب التجارية مع الصين. ويبدو أن الصينيين يدركون مدى هشاشتهم في الحرب هذه، ولا يريدون تجرع مزيد من الكؤوس. لذا، أمرت بكين وسائل الإعلام التي تدور في فلكها بالتوقف عن شيطنة ترامب. فالمسؤولون الصينيون يستقتلون في سبيل تقليص الآلام عن اقتصادهم في وقت يجد شي جينبينغ نفسه مضطراً إلى إبرام اتفاق لا مناص منه مع الأميركيين. والحق يقال التبادل التجاري بالغ الإيجابية، ولا خاسر فيه. وإذا ألزم النزاع الصين على تشريع الأبواب أكثر أمام استثمارات وسلع أجنبية، والنزول على قواعد منظمة التجارة العالمية واحترام حقوق الملكية الفكرية الأجنبية، شعرت لا محالة بالخسارة غير أنها ستكون في حال أفضل. فقد يؤذن الانفتاح الاقتصادي والسياسي بموجة ثانية من النمو تدوم عقوداً تخرج مئات ملايين الصينيين من الفقر وتحملهم إلى مدن جديدة متلألئة. وقصد نيكسون الصين ليريها السبيل إلى القرن العشرين. واليوم، من طريق الحرب التجارية، وهي وسيلة بغيضة، يقود دونالد ترامب الصين إلى القرن الحادي والعشرين. * مدير مركز «ترند ماكروليتيكس أل أل سي» للاستثمار، عن «وول ستريت جورنل» الأميركية، 28/7/2018، إعداد منال نحاس
مشاركة :