«توعك في الحضارة» لفرويد: أسئلة شائكة حول تدمير الذات

  • 8/2/2018
  • 00:00
  • 5
  • 0
  • 0
news-picture

«يبدو لي أن سؤال النوع الإنساني يجب أن يُطرح على الشكل الآتي: هل سيكون في مقدور التقدم الحضاري، وإلى أي حدّ، أن يسيطر على الاضطرابات التي تتمخض عنها الحياة الجماعية بفعل الاندفاعات الإنسانية الحاملة ضروب العدوانية والتدمير الذاتي؟ من وجهة النظر هذه، ربما كانت الحقبة التي نعيشها اليوم في حاجة إلى عناية خاصة. فالناس اليوم أمعنوا في السيطرة على قوى الطبيعة، بحيث صار في إمكانهم، بمساعدتها أن يعملوا على إفناء بعضهم بعضاً حتى آخر أفرادهم. وهم يعرفون هذا جيداً، ما يفسر في شكل منطقيّ، قسطاً كبيراً من سلوكهم الراهن وتعاستهم ومعاناتهم. بالتالي، لا شك في أن ثمة اليوم مجالاً لأن ننتظر من ثانية تلك القوتين السماويتين، الجنس (إيروس) الأبدي، أن تحاول أخيراً تأكيد ذاتها في المعركة التي تخوضها ضد خصمها الذي لا يقل أبدية منه». جاء هذا التحليل في بدايات النص الذي أصدره سيغموند فرويد عام 1930 بعنوان «توعك في الحضارة». وفي ذلك الحين، كان من الواضح أن مؤسس التحليل النفسي الذي دخل العقد الأخير من حياته وبدا بعيداً بعض الشيء عن عيادته ومرضاه واهتماماته الطبية والعلاجية، بات يميل أكثر إلى كتابة ذلك النوع من النصوص «الإجمالية» التي تتعامل الآن مع قضايا الحضارة والإنسانية بعدما أمضى العقود السابقة من حياته وهو يهتم بالقضايا الفردية. > هكذا، بعد سنتين أو ثلاث من صدور كتابه المهم والمثير للجدال «مستقبل وهم» الذي نتج إلى حد ما من مراسلاته مع القس العالم بفستر وأثار حفيظة هذا الأخير فأصدر رداً عليه كتابه «وهم مستقبل»، ها هو فرويد يصدر «توعك في الحضارة» الذي ربما أكثر ما يلفت فيه أنه لمرة نادرة انتزع فرويد من اهتماماته المتعلقة بسبر أغوار الماضي ليضعه على تماس مباشر مع المستقبل. ولكن منطلقاً من التساؤل في الصفحات الأولى عما آلت إليه تلك الثقافة الرفيعة التي لا يكفّ الإنسان عن الفخر بالوصول إليها، هي التي كانت في رأي الكاتب «قد احتاجت إلى بذل تضحيات كثيرة على طريق بحث الإنسان عن السعادة عبرها». بالنسبة إلى فرويد، لا ريب في أن تلك الثقافة تنحو الآن نحو قمع أكثر وأكثر قسوة يطاول الغرائز. وهنا بالذات، يكمن ذلك التوعك الذي يتحدث عنه الكاتب منذ عنوان نصّه. لأن من «الجنون إرغام الطبيعة على تقديم ما يفوق طاقتها، تماماً كما أن من الجنون أن نطلب من «الليبيدو» البشري سمواً يفوق حدوده». ولعل من الغريب أن فرويد يورد هنا ملاحظة بالغة الأهمية ومفاجئة في الوقت عينه، حيث يقول: «ربما يكون ثمة أمل بإلغاء المُلْكية الخاصة الذي ينادي به المجتمع الشيوعي الصغير - ربما كان فرويد يفكر هنا في أنصار فكر برودون والفوضويين لا بالشيوعيين الذين كانوا في الحكم - بالنظر إلى أن تلك المُلْكية تنتج من ممارسة العنف واللجوء إلى غرائز التدمير التي لا تتوانى بين الحين والآخر عن وضع الحضارة في خطر الزوال». > في شكل واضح إذاً، كان ما يفعله فرويد في هذا الكتاب، مواصلة إعمال فكره حول مصير الحضارة. بالتالي، لم يكن غريباً أن يرسم لنا هنا صورة مؤثرة لما سمّاه «التوازن الهشّ» الذي يعيشه الكائن البشري في مواجهة حضارة كان من المفترض فيها مبدئياً أن تحميه من كل ما يحيط به من أخطار، لكنها وللمفارقة تبدو هي الآن أنها تسعى إلى تدميره. ولكن، من أين يأتي فقدان التوازن هذا؟ يتساءل فرويد بقلق ليجيب أن هذه الوضعية غير المستقرة ليست سوى الانعكاس البائس للصراع الذي يعيشه كل فرد منا في داخله ومحوره اندفاعة الموت في وجه اندفاعة الحياة. ومهما يكن من أمر، فلم يكن الحديث عن هذا الصراع الجواني داخل الفرد جديداً على الفكر الفرويدي، ففرويد كان ومنذ عام 1920 تحدث عن وجوده، وظل يعبر عن ذلك بقوة أكثر وأكثر على مدى السنوات التالية على الرغم من الاعتراض الذي أبداه زملاؤه في معظمهم، بل تسبّب حتى في حدوث قطيعة علمية وشخصية بينه وبين بعضهم. وكان فرويد يرى، بحسب نظريته المبكرة تلك، أن المجتمع لا يتوقف عن قمع (كفّ وحتى حظر) الرغبات الجنسية والعدوانية، أو في الأقل، التضييق عليها وتقليصها إلى الحدود الدنيا، وغايته من ذلك الإبقاء على التناغم الاجتماعي. من هنا، يدخل المجتمع في صراع مع أعضائه وقد أُخذوا إفرادياً، على اعتبار أنهم إن تجمعوا وثاروا عليه سوف ينتهي بهم الأمر إلى تدميره. فكيف يحمي المجتمع نفسه؟ > يرى فرويد أن الوسيلة الأكثر فاعلية التي يلجأ إليها المجتمع بغية حماية نفسه وتماسكه إنما تقوم في فرض نوع من استبطان للسلطة الخارجية: بمعنى أن الضغط الذي يأتي من الخارج يتحول ضغطاً جوّانياً، في شكل يجعل الأنا العليا داخل كل فرد تتولى بنفسها كفّ الرغبات الغريزية التدميرية. في كلمات أخرى، يتحول الصراع بين الفرد والمجتمع صراعاً بين الأنا التي تثور والأنا العليا التي تقمع: يصبح صراعاً بين بعدين داخل الفرد نفسه. على هذا النحو، ينتهي الأمر بولادة نوع من الشعور بالذنب الذي لأنه يكون غير واع، لا يتم التعرّف إليه على هذا النحو ليتحول نوعاً من الشعور بـ «توعك واستياء يسعى إلى البحث عن دوافع له غير دوافعه الحقيقية». > وفرويد إذ يصل بتحليله إلى هذا المستوى، حيث من الواضح أن مجرد طرح التساؤلات هنا إنما هو توضيح للأجوبة التي يحملها تحليله، يصل في نهاية النصّ إلى طرح التساؤل الأساسي: في ظل وضعية كهذه، أي مستقبل سيكون للنوع البشري؟ أما جوابه النهائي هنا فمن الواضح أنه لم يكن في مقدوره إلا أن يكون سلبياً سوداوياً، هو الذي كان في إمكانه أن يلاحظ منذ عام 1929، أي وهو منكبّ على تأليف هذا الكتاب، أن الإنسانية باتت بالفعل تمتلك كل الوسائل القادرة على تمكينها من تدمير ذاتها بذاتها. > صحيح أن ثمة من الأسباب الشخصية الكثير الذي قد يفسّر لنا هذه الاستنتاجات التي يخلص إليها فرويد هنا، وبهذا جابهه يومذاك عدد كبير من زملائه الذين لم يكونوا بعد قادرين على رؤية الأخطار المقبلة، لكن فرويد كان مدركاً متبصراً أن ما يجري على الساحة العالمية، سواء كان أيديولوجياً أو عسكرياً أو حتى اقتصادياً، ليس في الإمكان اعتباره مجرد أحداث عابرة. كان يدرك ببصيرته أن ثمة هنا ما هو أبعد كثيراً من ذلك. كان مدركاً أن التطور الذي تعيشه الحضارة بات يعيش نوعاً من العد العكسي، وهو ما سوف يعود ويعبّر عنه في كتابات تالية وفي مناسبات تالية. لكنه حين رحل أوائل أيلول (سبتمبر) من عام 1939 وكانت الحرب المدمرة قد اندلعت في أوروبا إثر تحرك الجيوش النازية، لتسفر عن أعظم مجزرة في تاريخ البشرية - حتى ذلك الحين - لم يكن يدرك أن ما يحدث ليس سوى التطبيق العملي لما كان تحدث عنه. مع هذا، خلال الأيام السابقة على رحيله، وبحسب ما يروي طبيبه الخاص ماكس شور في كتابه «الموت في حياة فرويد»، كان مؤسس التحليل النفسي واحداً من قلة في العالم لم تبد متفاجئة بما يحدث، كان يرى ومن دون أن يعبر عن ذلك بوضوح، أن ما يحدث ليس حرباً بالمعنى التقليدي للكلمة، بل تدميراً ذاتياً يمارسه النوع البشري ماحياً تلك الحضارة التي اشتغل على بنائها طوال ألوف السنين. وهذا ما سوف يقوله خلال السنوات التي تلت رحيله، كل أولئك الذين ناوؤوه واعتبروه مغالياً في حديثه عن تدمير الذات. مهما يكن، فثمة مفكر وكاتب من المقربين من فرويد ومن خلصائه كان الثاني، بعد إرنست جونز، كاتب سيرته لاحقاً، في تأبينه في مقبرته اللندنية. ونعني به الكاتب ستيفن تسفايغ الذي قال في التأبين: «شكراً لك على العوالم التي فتحت أعيننا عليها، والتي يتعين علينا اليوم أن نتجول فيها وحيدين، من دون دليل يرشدنا، نحن المخلصين دائماً لذكراك المبجلين ما أنجزته، أنت يا فرويد يا أيها الصديق الأثمن ويا أيها المعلم المبجل». والحقيقة أن تسفايغ سوف يكون بعد ثلاث سنوات، وفي منفاه البرازيلي، وعبر انتحاره بصحبة زوجته، المعلن الأول عن إيمانه بأن فرويد لم يقل سوى الحقيقة عن عالم يدمر ذاته.

مشاركة :