تبدأ اليوم الثلاثاء السابع من شهر أغسطس (آب)، العقوبات الاقتصادية التي فرضتها الولايات المتحدة على إيران. كان أمس الاثنين نهاية مدة الثلاثة أشهر التي منحتها إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترمب للشركات التي قفزت للسوق الإيرانية بعد إبرام الاتفاق النووي في صيف 2015، وهي مدة كافية من وجهة النظر الأميركية للشركات الأجنبية، خاصة الأوروبية منها، لتسوية أوضاعها والخروج من إيران. اليوم ستبدأ عقوبات على تجارة السيارات والفحم والذهب والمعادن والمعاملات البنكية، ستعقبها عقوبات في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل متعلقة بالطاقة وتجارة النفط. الأوروبيون حاولوا إمساك العصا من المنتصف، وتهدئة روع الإيرانيين من جهة والوصول إلى مفاهمة مع الأميركيين من جهة أخرى لحماية شركاتهم التي عقدت صفقات كبيرة داخل إيران، مثلما حصل في التسعينات حينما فرضت عقوبات على ليبيا بعد حادثة تفجير طائرة بان أميركان، وعلى إيران إثر حادثة حجز الرهائن الأميركيين. بالنهاية لن يخاطر الأوروبيون بخسارة السوق الأميركية مقابل الإيرانية، وسيضطرون في نهاية الأمر للتعامل مع الأمر الواقع، الذي بدأ فعلياً بتجميد نشاط شركاتهم، ثم الخروج.خلال مرحلة الانحدار الشديدة التي وصل إليها الريال الإيراني؛ نحو 102 ألف ريال مقابل الدولار، وترقب مزيد من التهاوي في الفترة المقبلة، عادت الاحتجاجات الشعبية في المدن الإيرانية لتتصدر المشهد، وقد بلغت المظاهرات والغضب الشعبي الذي بدأ منذ ديسمبر (كانون الأول) من العام 2017 مستوى غير مسبوق من حيث جرأة المتظاهرين على ما كان مقدساً لا يُمس، مثل شخص المرشد الأعلى للثورة ومكانته ونزاهته، حيث نالته عبارات كراهية وامتهان ووصم بالفساد وتنديد بسياسته التي جر إليها البلاد كونه رأس هرم النظام.التعدي على المرشد لم يكن في أدبيات المحتجين طوال المظاهرات التي نشبت في الشارع الإيراني لأسباب مختلفة منذ بداية الثورة الخمينية. كان مقام المرشد دائماً بعيداً عن التباينات والمشاحنات السياسية، وفوق كل غضبة أو احتجاج، لكن هذا «التابو» تم تجاوزه وأصبحت عبارات الاتهام بالديكتاتورية تتكرر على الجدران وعلى أسنة المتظاهرين في شوارع مدن مختلفة في إيران منذ 8 أشهر. وقد حصل في ذلك التوقيت، أي بداية المظاهرات، أن هوجمت حوزة علمية في مدينة تركستان بمحافظة قزوين شمال غربي إيران وأحرقت. فُسّرت الحادثة حينها بأنها فورة غضب غير محسوبة ولا مقصودة، لكن الأمر تكرر قبل أيام، حين حاول مئات المتظاهرين الدخول إلى حوزة في منطقة «الكرج» بالقرب من العاصمة طهران وحرقها. كان مفهوماً لو تم الاعتداء على مؤسسات الدولة التي يشتكي من سياستها الناس لأنها طرف مباشر في الأزمة، لكن التعدي على شخص المرشد وعلى المدارس الدينية هو عودة إلى أصل المشكلة التي يفهمها الشباب الإيراني ولا يعرف غيرها، وهي أن الثورة فرضت قدسية قطعية على شخص المرشد والصبغة الدينية التي يمثلها، وجعلته فوق المساءلة أو الملاحظة، وفي معيته عمد رجال الدين على الإمساك بالسلطة.الاعتداء على الحوزات ليس اعتراضاً على الدين بحد ذاته، لكنه تعبير عن الغضب من النظام الثيوقراطي وكل أدواته من شخصيات ومؤسسات. من يعرف نظام الحكم في إيران يعرف أن التجاوز أو المساس بأمر يتعلق بهيبة المرشد أو بالسياسة الدينية يعتبر تحولاً خطيراً في المجتمع الإيراني، ومن لا يخشى القفز فوق أسوار المحرمات المجتمعية يكون قد اكتسب شجاعة ونفاذاً في الصبر تدفعه إلى تحقيق أهدافه دون وجل أو تردد. حتى على عامة الناس، توارد مثل هذه الأخبار بينهم يزعزع مكانة الرموز الدينية ويقلل من احترامهم لها، ويشعرهم بأن هذه الرموز التي ألفوها صلبة لعقود هي قابلة للخدش، وأنها اليوم مهددة بالكسر أكثر من أي وقت مضى.الدين له تقدير كبير لدى المجتمع الإيراني باختلاف أعراقه، لكنهم يعتقدون أن الطبقة الحاكمة امتطت ظهر الدين طويلاً لتحافظ على مكتسباتها الاجتماعية والمادية، وأنها وحدها التي حولت بلداً قوياً وغنياً بالموارد إلى بلد واهن مُعاقب بالمقاطعة الاقتصادية وسيئ السمعة. لذلك غير صحيح الادعاء بأن العقوبات الأميركية ستقوي موقع المحافظين ومؤسساتهم خاصة الحرس الثوري، ضد الرئيس حسن روحاني، على اعتبار أن المحافظين كانوا ضد الاتفاق النووي. المحافظون وحتى المرشد الأعلى، وإن أظهروا عدم رضاهم عن الاتفاق النووي لكنهم في حقيقة الأمر فرحوا به واحتفوا بالتوقيع، بل وسعوا له من خلال تنصيب رئيس محسوب على التيار المعتدل يستطيع أن يقبله الغرب مفاوضاً على الاتفاق، وهكذا كان. ومن ناحية أخرى، مثل هذه الحسابات لم تعد ذات وزن في الشارع، فالإيرانيون لا يعبأون اليوم بالتيارات السياسية، هم يعيشون داخل مركز الأحداث وتنعكس تداعياتها بشكل مباشر على حياتهم اليومية، وتزداد مخاوفهم مع أخبار إقالة الرئيس الإيراني لرئيس البنك المركزي، وطلب البرلمان مساءلة وزير الخارجية محمد جواد ظريف عن فشل الاتفاق النووي، وهو الذي احتفى من شرفة مكان إقامته في جنيف أمام الصحافيين برفع نسخة من وثيقة الاتفاق الموقع، آنذاك.كل هذه العوامل ستضيق على النظام وتفجر الوضع الداخلي المأزوم أصلاً، ومع زيادة جرعة العقوبات على المدى القريب تبقى خيارات النظام محدودة، وسيواجه أقسى أزمة مرت عليه منذ الثورة.[email protected]
مشاركة :