ظاهرة التسامح في المجتمع البحريني عبر العصور

  • 8/8/2018
  • 00:00
  • 8
  • 0
  • 0
news-picture

تتميز مملكة البحرين بأنها بلد التسامح على مستوى دول العالم في الوقت المعاصر، فما سبب ذلك؟ للإجابة عن هذا السؤال البالغ الأهمية لا بد من البحث عن جذور ظاهرة التسامح وانتشارها بين أبناء المجتمع البحريني بمختلف طوائفهم ودياناتهم ومذاهبهم عبر العصور التي مرت بها البحرين. مما لا شك فيه أن المواطن البحريني هو وريث حضارات قديمة جدًا كحضارة دلمون، وحضارة تايلوس وأرادوس، وحضارة ما قبل العصر الإسلامي وما بعده، وصولاً إلى العصر الحديث. وقد كان لهذه الحضارات على اختلافها وشدة تنوعها الأثر الكبير على سكان البحرين في حياتهم وتعاملهم، وعاداتهم وتقاليدهم وقيمهم بشكل مباشر. تعد أقدم حضارة عرفتها البحرين هي حضارة (دلمون) التي يرجع تاريخها إلى خمسة آلاف سنة، حيث تتحدث المصادر التاريخية عن الارتباط الكبير بين حضارة وادي الرافدين بالعراق وحضارة دلمون في البحرين. ويؤكد الدكتور رشيد الناظوري أستاذ التاريخ القديم بجامعة الإسكندرية في كتابه (بلاد الشرق الأدنى القديم) تلك العلاقات القديمة بين الحضارتين. ينطلق الدكتور الناظوري الذي يعد حجة في التاريخ القديم من حقائق تتمثل في قراءة بعض النصوص القديمة المنقوشة على بعض جدران آثار الحضارة السومرية، وتلك النصوص هي عبارة عن اسطورة قديمة ذكرت (دلمون) بشكل مفصل جدًا، كما تبين الرعيل الأول الذي استوطن دلمون بقيادة ملك صالح من ملوك العراق القديم. تتمثل تلك الأسطورة في أن إله السماء (انليل) قرر أن يغرق الأرض بالمياه ويقضي على البشر لانزعاجه منهم. وقد علم بالأمر إله الأرض (انكي) فطلب من الملك الصالح (زيو سدرى) أن يصنع سفينة لينجو بنفسه وينجو كل من يركبها من الغرق. وبمجرد الانتهاء من بناء السفينة بدأ الفيضان فركب السفينة مع مجموعة من البشر، وأخذت السفينة تمخر عباب البحر عدة أيام. وعندما بانت أشعة الشمس تضرع الملك (زيوسدرى) وطلب من الإله انليل أن ينزله في مكان آمن، فاستجاب له وأنزله في (دلمون) أي أرض الخلود وهي جزيرة البحرين. وتؤكد المقابر الدلمونية أن أرض البحرين كانت تعتبر أرض الخلود، حيث كان أبناء وادي الرافدين من المقتدرين يدفنون موتاهم في أرض دلمون ليمنحوا الخلود. هذه الأسطورة تؤكد البعد الحضاري لجزيرة البحرين، التي شهدت العديد من الحضارات القديمة، حيث انتشرت ظاهرة التسامح بين المجتمعات البشرية التي سكنت البحرين، وكان آخرها حضارة ما قبل الإسلام. فقد عاش في البحرين قبل الإسلام مجتمع بشري متنوع في دياناته ومعتقداته، وهي معتقدات متباينة مثل اليهودية، والمسيحية، والمجوسية، وعبدة الأوثان والأصنام، إلا أنهم جميعًا عاشوا أخوة متحابين متعاونين. ولم أجد من خلال اطلاعي على الكثير من المصادر التاريخية أن نزاعات أو حروبا حدثت بين أبناء هذه الديانات..بل على العكس من ذلك، كان التسامح والوحدة ومساعدة بعضهم بعضًا هي من السمات التي كانت سائدة، كما كانت حرية المعتقد مصانة والدليل على ذلك قيام أحد المسيحيين من الرهبان ببناء دير يتعبد فيه في منطقة نائية من جزيرة المحرق، وقد سميت تلك المنطقة بدير الراهب، ثم اكتفي بذكر الدير وهي قرية الدير الحالية. وقد بنى أهالي الدير مسجدًا مكان الدير أطلقوا عليه مسجد الراهب اكرامًا له، وهذا يعكس روح التسامح المتأصلة في الشعب البحريني. وتؤكد المصادر التاريخية أن البحرين دخلت الإسلام عندما تلقى ملك البحرين آنذاك المنذر بن ساوى رسالة من النبي محمد (ص) يدعوه فيها إلى الإسلام نقلها اليه العلاء الحضرمي. ونظرًا إلى كون المجتمع البحريني مجتمعا متحضرا تسوده قيم التسامح، فقد عرض المنذر بن ساوى رسالة النبي (ص) على قومه المكون من مختلف الديانات، فدخلوا في الإسلام عن قناعة، وخاصة ان معظم سكان البحرين حينذاك هم من قبيلة عبدالقيس حيث أسلموا جميعهم من دون إكراه. وقد تشبع أبناء البحرين بعد دخولهم الإسلام بقيم الدين الإسلامي الذي يحض على التعاون والاتحاد ونبذ الفرقة، والبعد عن الغلو والتعصب والتشدد، الأمر الذي زاد من تشبث المجتمع البحريني آنذاك بروح التسامح والمحافظة على هذه الروح التي كانت محفوظة في نفوسهم ورثوها على مر الأجيال. بقيت البحرين خالصة يدين سكانها بالدين الإسلامي الحنيف. وقد أخذت الجاليات الأجنبية بمختلف معتقداتها ودياناتها تفد إلى البحرين اعتبارًا من عهد الشيخ عيسى بن علي آل خليفة في القرن التاسع عشر الميلادي. فقد وفدت إلى البحرين بعثة تبشيرية مسيحية على يد القس صموئيل زويمر، ما أدى إلى تكاثر عدد المسيحيين من جاليات أجنبية في البحرين. ومما زاد في تحمسهم للبقاء في البحرين مسحة التسامح التي عرف بها المجتمع البحريني فأسسوا مدارسهم وكنائسهم في البلاد من دون عوائق. تشجع اليهود وبصورة خاصة يهود العراق على استيطان البحرين وبنوا كنسهم في عهد الشيخ حمد بن عيسى بن علي آل خليفة، كما بدأ الهندوس وأصحاب الديانات البهائية والبوذية وغيرهم من أصحاب الديانات الأخرى بالقدوم إلى البحرين باعتبارها بلد التسامح. بلغت ظاهرة التسامح قمة ازدهارها في عهد صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة ملك مملكة البحرين بتأسيسه مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي في شهر مارس 2018م، والذي تجسد رسالته ورؤيته المبادئ المستخلصة من تاريخ وحضارة مملكة البحرين عبر عصورها، والمتمثلة في الانفتاح على جميع الحضارات والأديان والثقافات وتعزيز قيم التعايش والتسامح والسلام. وتؤكد أهداف المركز أهمية تلاقي الحضارات وتمازجها لتحقيق السلم العالمي والعيش المشترك بين البشر. كما تؤكد على إحداث حركة تنويرية من خلال التوعية بأهمية الحوار والالتقاء على ما اتفقت عليه الحضارات والثقافات من مشتركات أخلاقية وحقوقية. إن المتأمل في أهداف ورؤية المركز تركز على أهمية حوار الحضارات وتلاقيها، حيث تركز معظم مواد الأمر الملكي رقم (15) لسنة 2018 الخاصة بإنشاء مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي على ذكر كلمة (الحضارة) التي جاء ذكرها عدة مرات، لما للحضارات من دور كبير في تطوير المجتمعات من جميع الجهات الثقافية والاجتماعية والتعليمية والتعايش السلمي ونبذ الإرهاب والتعصب والتشدد، وعدم إقصاء الآخر. إن البيئة الحاضنة للتسامح تتمثل في الدول المتحضرة التي لها تاريخ يقترن بالحضارات التي نشأت على أرضها، وهذا ما يؤهل مملكة البحرين لأن تكون رائدة في مجال نشر ظاهرة التسامح والتعايش بين بني البشر، نظرًا إلى ما شهدته البحرين من تأسيس حضارات على أرضها تتمثل في الحضارات القديمة التي تم ذكرها سلفًا. لقد جاء إنشاء مركز الملك حمد العالمي للتعايش السلمي الذي يسعى إلى التركيز على نشر مبدأ التسامح والتعايش بين البشر ليربط تاريخ البحرين المعاصر في عهد جلالة الملك بتاريخ الحضارات التي نشأت على أرض مملكة البحرين عبر عصور مختلفة، الأمر الذي يؤكد أن مملكة البحرين هي بلد التسامح على المستوى العالمي بامتياز.

مشاركة :