يبدو حادث مقتل كاهن داخل دير العبادة في مصر ليس مجرد جريمة عادية، لكنه تجسيد لصراعات فكرية بين من يسمون بالمتشددين من الحرس القديم والتيار الإصلاحي، في التعامل مع اللاهوت. فالحادث الذي وقع منذ أسبوع، خلّف وراءه الكثير من ردود الأفعال، واستوجب اتخاذ مجموعة من القرارات، شبهها البعض بالثورة داخل الكنيسة المصرية، الأقدم في المنطقة، قد تقود إلى مزيد من الخلافات أو تصويب الأمور وترسيخ فكرة التسامح. القاهرة- أكد مقتل الأنبا إبيفانيوس، أسقف ورئيس دير أبومقار، بوادي النطرون شمال غرب مصر، عمق الخلافات التي تعتمل داخل الكنيسة المصرية، بما ينذر بمزيد من الاحتقانات بين تيارات متصارعة، اعتادت على مداراة خلافاتها الداخلية. لكن عندما تخرج للعلن، وتتحول إلى مادة دسمة على مواقع التواصل الاجتماعي، تدخل المسألة هنا إلى دائرة الخطر، فمن أهم سمات الكنيسة المصرية احتواء الخلافات داخلها، مهما بلغت ضخامتها، والحض على المحبة والتسامح. تعد هذه المرة الأولى في تاريخ الكنيسة المصرية التي يتم فيها اغتيال راهب في مقر خدمته بطريقة وحشية، فالجناة مثّلوا بجثته، في إشارة إلى أن الانتقام كان المحرك لهم والكراهية دفعتهم للإقدام على ما يتنافى مع روح التسامح والمحبة التي من المفترض أن تسود دور العبادة. لم تعلن جهات التحقيق عن نتائج محددة حتى الآن، بيد أن اختيار الأنبا إبيفانيوس نفسه كضحية له عدة دلائل، تتطلب أن يكون المنفّذ أو المحرّض على درجة معيّنة من الوعي بتاريخ الكنيسة والتغييرات الدائرة فيها، فالرجل لا هو أسقف شهير ولا يعرفه سوى الباحثين والمطلعين على الشؤون الداخلية للكنيسة. أشار مصدر كنسي لـ”العرب”، إلى أن القاتل من الدير، وحذّر من اشتعال فتنة بين الأقباط في حال ثبوت الجريمة على راهب، فهناك كثيرون لن يستوعبوا فرضية تورط الكهنة في دنس أو خطيّة، وقد يدفعهم إيمانهم بالإكليروس (رجال الدين) للإنكار والتشكيك في سير الإجراءات وربما يمتد اتهاماتهم للكنيسة أيضا. طعن أسقف مقرب من بابا الكنيسة ومؤيد لإجراءاته الإصلاحية، يعني عليه اتخاذ ما يلزم من تريث حيال المزيد من الإصلاحات ظهرت بوادر تلك الفتنة، الأحد 5 أغسطس، عندما قررت الكنيسة تجريد الراهب إشعياء المقاري من رهبانيته وطرده من الدير، وهو ما أثار حفيظة تيارات قبطية اتهمت الكنيسة بأنها تريد تقديمه كبش فداء في قضية مقتل الراهب كونه على خلاف سابق معه. ومع أن الكنيسة أصدرت بيانا نفت فيه وجود علاقة بين تجريد الراهب من رهبنته ومقتل رئيس الدير، إلا أن توقيت اتخاذ القرار أثار بلبلة، لأن البيان مبهم ولم يذكر دوافع التجريد إلا بعبارة “أفعاله تتنافى مع الرهبنة” وهو ما فتح مجالا لمزيد من التأويلات. قال مصدر قبطي (رفض ذكر اسمه) لـ”العرب”، إن السبب الحقيقي لقرار الشلح (التجريد) ستكشف عنه الأيام المقبلة، مرجّحا أن الكنيسة تمهّد لتقديم الراهب لجهات التحقيق الرسمية في مقتل رئيس الدير، وكان من الممكن أن تؤجل الكنيسة قرارها حتى يتجاوز الأقباط صدمة مقتل أبيفانيوس، إلا إذا كانت التهمة جنائية. وفقا للقوانين الكنسية، فإن عقوبة تجريد راهب من رهبنته أو كهنوته، لا تتم إلا بسبب ارتكابه مخالفات عقيدية تخرجه عن الأرثوذكسية أو تورطه ماليًا، أو بسبب فضائح جنسية أو لاتهامه جنائيًا في أي قضية مخلّة بالشرف أو تخالف القانون المصري. استهجن ناشطون أقباط فكرة أن يقتل القبطي قبطيا، فكيف يقتل راهب زاهدا يعمل تحت رئاسته الروحية لمجرد أنه اختلف معه؟ تعود جذور الأزمة في الخلافات الكنسية إلى تتلمذ الأنبا إبيفانيوس، على يد متى المسكين، أحد أبرز رجال الدين المسيحي، الذين أثاروا الجدل منذ خمسينات القرن الماضي، وهو الأب الروحي لدير أبومقار. وأشار سامي عازر، عضو بائتلاف أقباط مصر، إلى أن الدير شهد هجوما حادا بسبب أفكار المسكين، الذي خاض صراعا فكريا في بعض الأمور اللاهوتية، مع البابا شنودة الثالث (بابا الكنيسة المصري السابق) والأنبا بيشوي مطران كفر الشيخ والبراري، أبرزها يدور حول “مفهوم الوحدة مع الطوائف الأخرى”، ومسألة “تأليه الإنسان”، و”النقد الكتابي والتشكيك في صحة أجزاء بإنجيل مرقس وعبارات في إنجيل متى”، وتم منع تداول كتب المسكين في مكتبات الكنيسة. وشرح عازر لـ”العرب” الفكرة، قائلا “الفترة بين وفاة المسكين 2006 ووفاة شنودة عام 2012 شهدت انقساما بين الأكليروس داخل الدير، إلى أن تم اختيار الراهب إبيفانيوس المقاري عبر الانتخابات في 2013 التي شارك فيها رهبان الدير دون رغبة أتباع شنودة المنتمين إلى الدير”. وشهد الدير تصاعدا في حدة الخلافات قبل أيام من مقتل إبيفانيوس، إثر تكريم الكنيسة لمتى المسكين، خلال الاحتفال بمئوية مدارس الأحد وشن من يعرفون بـ”أبناء شنودة” حملة على الأنبا واتهموه بالهرطقة لانتمائه إلى المدرسة المتاوية، لكن لم يتوقع أحد أن يتطوّر الخلاف الفكري إلى القتل فجوة بين المختلفين. ويتوقّع بعض المتابعين لشؤون الكنيسة أن يعمّق الحادث الفجوة بين المختلفين فكريّا، ويؤدي إلى انزواء التيار الإصلاحي تاركا الساحة للمتشددين وسلفيي الكنيسة، ما يوفر دافعا لثورة تصحيح، قد تتغير بموجبها الخارطة المستقبلية للكنيسة وأديرتها. يشير هؤلاء إلى أن مقتل إبيفانيوس، مهما كانت هوية القاتل، المقصود به قطع الطريق على الفكر الحداثي التنويري الذي يمثّله أتباع متى المسكين ومنع صعوده أو تعميمه ليكون مرجعية لاهوتية عامة للمسيحيين. تعد هذه المرة الأولى في تاريخ الكنيسة المصرية التي يتم فيها اغتيال راهب في مقر خدمته بطريقة وحشية، فالجناة مثّلوا بجثته، في إشارة إلى أن الانتقام كان المحرك لهم وينطوي الحادث على رسالة تحذير للبابا تواضروس (بابا الكنيسة المصرية الحالي) شخصيًا لتشابه رؤيته الإصلاحية مع أفكار المسكين، فطعن أسقف مقرب منه ومن اختياراته في الرسامات ومؤيد لإجراءاته الإصلاحية، يعني عليه اتخاذ ما يلزم من تريث حيال المزيد من الإصلاحات الكنسية. كل ذلك لن يثني البابا عن خططه ولن يجبره على تأجيلها، بل سيكون دافعا لمزيد من الإصلاحات، وظهرت ملامح ذلك في قرارات اتخذها الخميس الماضي بشأن نظام الرهبنة. وقرر تواضروس تعليق قبول الرهبان لمدة عام، وتجريد الراهب من الرهبنة والكهنوت في حالات الظهور الإعلامي بأي وسيلة أو التورط في أي تعاملات مالية أو مشروعات لم يكلفه بها ديره، ومنح الرهبان مهلة لمدة شهر لغلق صفحاتهم وحساباتهم على وسائل التواصل الاجتماعي. ومرجّح أن تشهد الأيام المقبلة تطورات جديدة في نظام الرهبنة وترقيات الكهنة، وتمتد الإصلاحات للكنائس والأبراشيات، وربما تشمل موجة شلح واسعة للمخالفين لضوابط الرهبنة وتوجيهات الكنيسة والأديرة المعترف بها. وصف نشطاء أقباط تلك القرارات بأنها “ثورية ستغير من أمور الكنيسة بشكل عام، والرهبنة بشكل خاص، فهي حرب على السلوكيات والتصرفات السلبية التي لا تليق بالحياة الرهبانية، وحتما سوف تقود إلى سيادة التسامح”. اشتبكت تلك القرارات مع مخالفات جسيمة لكثير من الرهبان، سواء في مسلك حياة الزهد والتقشف أو في التعامل مع الأمور المالية والإعلامية، وبدا للبعض أنها جاءت للتخلص من ميراث البابا شنودة، سواء كانوا أساقفة لا يستحقون السيامة أو رهبانا منحرفين أو حتى فكرا متطرفا.
مشاركة :