يعقوب المقاري راهب مطرود يطفو على السطح مع مشاكل الكنيسة المصرية

  • 9/27/2018
  • 00:00
  • 3
  • 0
  • 0
news-picture

أثار إعلان الراهِب المطرود يعقوب المقاري انفصاله عن الكنيسة الأرثوذكسية بعدما تم “شلحه” وتجريده من الرهبنة مؤخرا، ضجة كبيرة في الشارع المصري. فقد رافقت الإعلان تخمينات عن نيته تأسيس كنيسة جديدة منشقة، كما ظهرت صوره في شكل يشبه زي البطريرك، ومن حوله مجموعة من الشبان في ملابس كنسية، رسمهم رهبانا بنفسه. ولم يراع المقاري الظروف الحرجة التي تمر بها الكنيسة بعد مقتل الأنبا أبيفانيوس، رئيس دير الأنبا مقاريوس في وادي النطرون، وأحد أقطاب الجبهة الإصلاحية التي يقودها تواضروس بابا الإسكندرية وبطريرك الكنيسة المرقسية. الحرس القديم والزلزال أثار الحادث الذي وقع الشهر الماضي، قضايا ضاعفت من هوة الخلافات بين الحرس القديم، ويمثله الجناح التابع للبابا الراحل شنودة الثالث، وبين التيار الإصلاحي المؤيد للبابا الحالي تواضروس. وقد أدت صدمة الراهب بعد تجريد لجنة الرهبنة بالمجمع المقدس له من الرهبانية، به ليأخذ الانشقاق سبيلا، ويعلن انقلابه على رأس الكنيسة عبر بيان روج فيه للشكوك التي أثارها المعارضون إبان القرعة الهيكلية التي جاءت بالبابا تواضروس بطريركا للأقباط منذ ستة أعوام، والخروج على قوانين الآباء الرسل وطالب بعزله، وتشكيل لجنة من أساقفة الكنيسة لإدارة شؤونها، وانتخاب بطريرك جديد. يدرك المتابع أنها تحمل في طياتها جوهر فنائها، مهما طال الوقت، لأنها تعبر عن توجهات فردية، تستخدم البعد الإعلامي لكسب تعاطف في المجتمع. وتحظى مثل هذه الانشقاقات بأنصار يستطيعون تقديم التمويل المادي، وتتكرر بين حين وآخر بأشكال مختلفة، وترتبط غالبا بالسلوك البشري في الاستقطاب والعداء أو في الاتفاق والاختلاف. انشق ماكس ميشيل المعروف إعلاميا بالأنبا “ماكسيموس” عن الكنيسة المصرية في أواخر التسعينات من القرن الماضي، وقيل إنه كان مدعوما من الحكومة في عصر الرئيس المصري الراحل أنور السادات، لتصفية حسابات سياسية مع البابا شنودة الذي دخل في خلاف مع السادات. وتصاعد الأمر إلى حد أن ماكسيموس طالب بتحديد إقامة شنودة في دير بوادي النطرون، وارتدى الرجل زي البطريرك وأطلق على نفسه رئيس المجمع المقدس بكنائس الشرق لكنائس القديس إثناسيوس في مصر والشرق الأوسط. ويعد هابيل توفيق، وهو أرثوذكسي وشماس، آخر المنشقين عن الكنيسة الأرثوذكسية، وقد لقي ترحيبا من بعض الأقباط، بسبب ترويجه أن لديه حلا لمشاكل الطلاق وتصاريح الزواج الثاني، ووعد بفتح الحج إلى القدس الذي منعه البابا شنودة. حاول تكوين طائفة جديدة باسم “القديس بولس الرسول”، وأطلق على نفسه “الأنبا هابيل الثاني” بطريرك الكنيسة الجديدة في مصر القديمة، والأمر لم يستمر طويلا، وانتهى بتراجعه وخلع زي الكهنوت وغلق كنيسته وعودته لأصله العلماني وتقديم الاعتذار للبابا شنودة. يمثل يعقوب المقاري حاليا تطورا نوعيا في تلك الظاهرة. وكل الدلائل تشير إلى أن انشقاقه سببه المصالح وحب المال والخوف من السجن، وليس خلافا عقائديا كما يزعم، لأنه لا يوجد ما يشي بذلك على مدار الأعوام التي قضاها البابا تواضروس في كرسي البابوية. غضب البابا تواضروس يدفعه لوضع قوانين جديدة للرهبنة. وقد أمهل الأماكن غير المعترف بها كأديرة، شهرا واحدا لتصحيح أوضاعها، انتهى في 17 سبتمبر الجاريغضب البابا تواضروس يدفعه لوضع قوانين جديدة للرهبنة. وقد أمهل الأماكن غير المعترف بها كأديرة، شهرا واحدا لتصحيح أوضاعها، انتهى في 17 سبتمبر الجاري يصعب فصل جرأة المقاري وحديثه عن انحرافات بابا الأقباط عقائديا عن الظروف المرتبكة التي تسود وسط الأقباط. فالراهب أراد أن يكون كلامه طعما لآخرين يقعون في شباكه، ويساندونه في قضيته، وربما يلقى إعلان الانفصال عن رأس الكنيسة الأم صدى لدى رهبان وأساقفة أوقفت قرارات لجنة شؤون الرهبنة والأديرة ترسيمهم أو ترقيتهم. راهن المقاري على أن الكنيسة لن تخاطر وتتخذ حياله إجراءات قانونية تحاشيا لغضب الأرثوذكس من أن يتم الزج برجل دين في السجن، وتدور في مخيلته واقعة شبيهة لأحد الأديرة، وهو دير الأنبا مكاريوس بوادي الريان في محافظة الفيوم بجنوب غرب القاهرة. تمرد البعض من الأقباط على موقف الكنيسة بإعلانها عدم مسؤوليتها عن الدير وتبني توجهات الحكومة في التخلي عن جزء من الأراضي التابعة له لشق طريق دولي، وقتها اتهمت الكنيسة بأنها أهدرت حقا تاريخيا للأقباط، وفتحت المجال أمام الحكومة لهدمه، وتعالت الأصوات ضد الكنيسة واتهمتها بالتواطؤ. فاض الكيل في ظروف مغايرة كان من الممكن أن يكسب المقاري الرهان، لكن المتابع للشأن القبطي يدرك أنه أخطأ في تقديراته. فالكنيسة غضت الطرف عن سلوكيات الرهبان لسنوات خوفا من فتح جراح لن تستطع تضميدها، وسط أجواء مشحونة داخلها بسبب صراعات على النفوذ. تأسست الرهبنة على عدة نذور، هي الطاعة والفقر الاختياري والبتولية وعمل اليد، لكنها شهدت في العقود الأخيرة ضعفا في خصائصها واهتزاز بعض أعمدتها، بعدما خرج الرهبان للعالم، وتملك قطاع منهم ثروات تقدر بالملايين من الجنيهات من التبرعات، وأضحت “الطاعة” فيها خاضعة لأهواء الذات، و”الفقر” مظهرا لاستدرار عطف الأغنياء، و”البتولية” ثوبا ممزَّقا يكشف المجروحين بسهام الشهوة. فاض الكيل بالبابا بعد أن أدت الانحرافات إلى إزهاق الأرواح، ووضع قوانين جديدة للرهبنة، لضبطها ولتحقيق رغبته في إخضاع الأديرة لسيطرة الكنيسة أمهل الأماكن غير المعترف بها كأديرة، شهرا لتصحيح أوضاعها، انتهى في 17 سبتمبر الجاري، والخضوع لإشراف البطريركية روحيا ورهبانيا وإداريا وماليا، وحذر من لا يقبل الدعوة بأن له أغراض منحرفة، ويعلن العصيان على الكنيسة ويحكم على نفسه بالتجريد. تدرك الكنيسة أن تلك القرارات فتحت عليها نيران أصحاب المصالح، وعلى رأسهم يعقوب المقاري نفسه، ورتبت أوراقها متوقعة أن ينتهز الراهب التوتر القائم بين بعض الأكليروس والبابا ليرمي بشباكه حول معارضين. رجال أعمال يمولون الانشقاق تم ترسيم المقاري كاهنا في مارس 2010 على يد البابا شنودة الثالث بدير الأنبا مقار، واستطاع أن يحصل على خطاب منه لبناء دير باسم “السيدة العذراء والأنبا كاراس” لإحياء ذكرى قديس سكن صحراء وادي النطرون في القرن الرابع الميلادي. جمع المقاري نحو 33 مليون جنيه (1.8 مليون دولار) من رجال أعمال أقباط لإقامة ديره على مساحة 53 فدانا، على أن ينقل ملكيته بعد الانتهاء منه إلى بطريركية الأقباط الأرثوذكس، لأن المجمع المقدس لن يعترف بدير تم تسجيل أرضه بأسماء أخرى. اتبع الراهب المراوغة منهجا في التعامل مع الكنيسة، وأعطاها عقودا وهمية للأرض، ووضع شرطا أن يتولى رئاسة الدير لنقل ملكية الأرض لها، ويعلم أن تسليمه للدير يجب أن يكون دون شروط. كانت للكنيسة رؤيتها، فهي تريد السيطرة على الدير ولا تريد أن تلجأ إلى إجراءات قانونية وتحبس الراهب، فقد يجد تعاطفا معه، ولن تستمر في ترك الدير على وضعه الحالي، لأنه يشجع رهبانا وأديرة أخرى على التمادي في الانفصال. لم يستثمر المقاري أناة آباء الكنيسة عليه السنوات الماضية، وأفشل جميع محاولات التفاهم معه، وصدر قرار بتجريده ثم تم التراجع عنه، بعد أن وعد بالخضوع للكنيسة، لكنه لم يفعل، وواصل المماطلة. لذلك أصدرت لجنة شؤون الرهبنة والأديرة بالكنيسة قرارا بتجريده من الرهبنة في 28 أغسطس الماضي، وعودته لاسمه العلماني “شنودة وهبه عطاالله”، نظرا لما وصفته بـ”التجاوزات العديدة” التي قام بها، وحذَّرت من التعامُل معه، وأنها غير مسؤولة عن الشبّان طالبي الرهبنة في ما يُسمَّى بدير “الأنبا كاراس” الذي يترأسه المقاري. خيارات الراهب يعقوب المقاري يمثل اليوم تطورا نوعيا. وكل الدلائل تشير إلى أن انشقاقه سببه المصالح وحب المال والخوف من السجن، وليس خلافا عقائديا كما يزعميعقوب المقاري يمثل اليوم تطورا نوعيا. وكل الدلائل تشير إلى أن انشقاقه سببه المصالح وحب المال والخوف من السجن، وليس خلافا عقائديا كما يزعم ويواجه الراهب المشلوح اتهامات الادعاء بأنه يملك موهبة إخراج الشياطين والشعوذة، وفرض سيطرته على المكان، وهناك شكوى ضده تقول إنه يتاجر في الآثار والعملة، وحصل على أموال من ناس ولم يردها إليهم، وشكاوى أخرى بأنه أتى بأربعة رهبان وطردهم. يرى البعض أن المقاري لم تكن لديه خيارات أخرى غير الانشقاق، فإذا لم يسلم الدير سيتم شلحه وتجريده، وإن سلمه لن تسدد الكنيسة ديونه أو تتستر عليه، ولأن النتيجة واحدة لم يجد الرجل مفرا سوى الانشقاق. كان بإمكان الراهب المنتمي لإحدى القرى الفقيرة في محافظة سوهاج، كسب معركته والاحتفاظ بالدير الذي تعب في إجراءات تشييده، لو تعامل بمرونة وراعى الظروف التي تمر بها الكنيسة، وأدرك أن الاستثناء يؤدي إلى تنازلات مع أديرة أخرى غير المقننة. وبقليل من الحكمة كان سيمرر ممارساته في جمع التبرعات لأنها ليست “يتيمة”، بل ممارسات ينظر لها على أنها وفية لما نهضت عليه بعض الأديرة المصرية. أصر المقاري على الاصطدام مع رأس الكنيسة مصرحا أن “قرار التجريد لا يفرق معه فالكنيسة لم تشلحه بل تواضروس من فعل وهو لا يعترف به كبطريرك للأقباط، وأن البابا شنودة رسمهما معا، أي أن مصدر كهنوت كل منهما واحد، وطالب بعزله من منصبه”. وهدف من وراء تصريحاته إلى تشجيع المعارضين لتوجهات البابا الإصلاحية للانضمام إليه، لكنه فقد تعاطف المؤيدين لموقفه بعد تشكيكه في شرعية البطريرك المختار بالقرعة الهيكلية، كما أن أغلبية الأقباط يعتبرونه اختيارا إلهيا، لا يمكن التشكيك فيه أو الخروج عليه وتحديه. توالت الاستفزازات بنشر صورة له وهو يرتدي زيا مشابها لما يرتديه البطريرك، ممسكا بعصا في إشارة تؤكد أنه نصب نفسه قائدا ورئيسا للدير، ما يعتبر تحديا للبطريرك والكنيسة. جاء التحدي الآخر مع رسامته للرهبان، فالكنيسة كانت قديما تسمح للراهب أن يقوم بتلبيس زي الرهبنة بعد عدة صلوات، ومع تطور الزمن اقتصر ذلك على الأسقف والبطريرك دون الرهبان. رسم الراهب المشلوح رهبانا دون حملة مؤهلات علمية عليا، ضاربا عرض الحائط بشروط الكنيسة القبطية للرهبنة بالحصول على مؤهل عال، وحاول إحداث وقيعة بين الكنيسة والبسطاء بقوله “الأديرة مغلقة ولا تقبل إلا أطباء ومهندسين فقط”. أصبحت الوقيعة من نصيب الراهب، حيث تهكم البعض عليه واتهموه بأنه صاحب “وجهين”، كيف يقتنعون بما رسمهم رهبانا، في حين أنه كراهب لم يلتزم بواحدة من أهم قواعد الرهبنة، وهي الطاعة. سلوك الراهب جعل الكثير من الناس يغيرون نظرتهم للرهبان وينزلونهم من مرتبة القداسة، ويقتنعون أنهم مثل أي نفس بشرية تواقة للنعم والسلطة والشهوات، وتكسبهم المناصب الدينية حضورا ونفوذا يقودهم إلى صراعات يختلط فيها الديني بالدنيوي وبالسلطوي، وكثيرا ما تنتهي الخلافات بالانشقاق عندما تختلف الرؤى وتتعارض المصالح. متوقع أن يؤول الدير وما يملكه الراهب الى الرئيس الأعلى للكنيسة القبطية الأرثوذكسية بصفته، وهو البابا تواضروس الثاني، فهو المالك لجميع الأديرة والمقدسات والمقاصد والكنائس المسيحية في مصر والخارج، وإذا رفض الراهب المشلوح سوف يُعتبر في حكم المغتصب وتتم معاقبته طبقا للقانون الجنائي. سوف تنتهي الضجة المثارة حول يعقوب المقاري أسرع مما انتهى إليه بعض المنشقين عن الكنيسة الذين طردوا منها أو تركوها وعادوا إلى حياتهم العادية، لأن الكثيرين تأكدوا أن موقفه شخصي، وليس جزءا من الصراع الحالي داخل الكنيسة، كما أنه لا يملك قضية يناضل من أجلها ولا يحظى بدعم من الحكومة يمكنه من الصمود، لأن علاقة تواضروس قوية بالنظام الحاكم في مصر. وتحاول الحكومة المصرية عدم التدخل في الشأن الداخلي للكنيسة، غير أنها تراقب الأمر من بعيد، ولا يمكنها التسامُح مع من يُريد الانشقاق. وإذا كانت أجهزة الأمن تهاجم المتطرفين من المسلمين، لن تسمح لمُتشدِّد في الكنيسة أن يُملي إرادته على جموعِ الأقباط، وعلى البطريرك خاصة، وأيّ انشقاق أو انقلاب ديني يؤثِّر على هيبة النظام والدولة.

مشاركة :