كان نهارا حزينا غائما حتى بكت السماء مساءً، والبكاء يطهر النفس ويجعلها صافية كما السماء الآن بعد هطول المطر، فعندما تأملتها كانت النجوم تتلألأ في وجه الليل، وفي برك المياه الصغيرة على جانبي الطريق، وبمجرد أن خطى حذائي الغارق في الماء، سلم المنزل الغارق في الأحزان، اختفت النجوم وراء الغيم الذي لا يغادر إلا ببكاء السماء، فساد الظلام وأنا أمسك بمقبض الباب لأفتحه، فأصدر صريرا كئيبا، وقابلتني رائحة الهواء العطنة، فمددت ذراعي لمفتاح الكهرباء ، وتراجعت خطوة للخلف، ووقفت أحدق في الضوء الواهن القادم من الداخل الذي يتلاشى في الظلام عند عتبة الباب، فلم يكن هناك غير مصباح قديم يتدلى من السقف فوق طاولة وكرسيين لم يجلس إليهم أحد منذ سنين مضت، في منتصفها إطار يحمل صورة لها، تاهت ملامحها في الأيام، ولكني استرجعتها من الذاكرة، فعاد لها جمالها الذي أخذني لماض يملأ الحاضر.فتذكرت السؤال الذي كان جواز مروري إلى مدينتها، وكأننا نعيش ملهاة إغريقية لا تنتهي، فقد سألتني بكل تعالٍ وتكبر وكأنها تثق في إخفاقي:- هل تعرف القائل: "يبدأ التاريخ بمهزلة وينتهي بمأساة" أثار سؤالها غضب أبي وأمي فنظرا نحوي باندهاش، وضجر أبيها وأمها فنظرا نحوها بضيق ونفور، فقد آتينا في تلك الليلة لطلب يدها بالطريقة التقليدية التي تبغضها.وأجبت سؤالها، وعلى وجهي ابتسامة خفيفة: - كارل ماركس فرفعت حاجبيها، ونغضت إليِّ رأسها وقالت: - أتعرفه- أعرفه كما أعرف يهوذا، وأبولهب، وهتلر.استفزها ردي بشدة، وهذا ما كنت أبغيه.. فقالت مزمجرة- ماذا ...؟!لم أترك لها فرصة لتتحدث وباغتها قائلا :- هل تحبين الشتاء؟ - أكرهه..وأكرهـ….وقبل أن تكمل قلت: - ما رأيك لو تقابلنا لنناقش حبك لماركس، وكرهك للشتاء...أوجد طلبي لقاءً معها لحظات صمت ثقيلة، وكأننا نحضر عرضا في مسرح العبث لـ" بكيت" أو " كامو"، فتطلع أبواها نحوي بفرح مستتر، بينما نظر أبواي إليِّ باستغراب ظاهر.وكانت لحظات الصمت تلك هي بداية حياتي معها.وابتسمتُ وسقطت من عيني دمعة تدحرجت على خدي وكأنها حجر ثقيل، فجلست على الكرسي.. وظلها ينبت في الضوء المكفهر، واحتضنت يداي الصورة...ثم قهقهت كمجنون… ففي نهار شتوي مثل هذا النهار الحزين الغائم أدركت كرهها الفطري للشتاء.. فقد كنا نحاول تجنب الحشود التي احتلت الميدان وداعبتها قائلا :- زينة .. ما رأيك لو انضممت إليهم؟! التفت نحوي وهي تبتسم قائلة:- سأصنع "كوكتيل" غريبا.. اشتراكية تقدمية مع إسلاميين. ثم سقطت فجأة أمامي.. ولم أدر شيئا مما جرى..إلا وأنا في عربة الترحيلات..فقد تحولت الحياة إلى موت، صراخ، عويل، رصاص، ودخان، وعمر ضاع في صحبة سجان.. كان يسأل كلما رحل صيف لماذا تكره الشتاء ؟!وكنت أجيب بقول صلاح عبدالصبور:ينبئني شتاء هذا العامأنني أموت وحديذاتَ شتاء مثله, ذات شتاءوأن أعوامي التي مضت كانت هباءرضا نايل
مشاركة :