سوسن دهنيم نغادر أوطاننا لنكتشفها أكثر. كأننا ندخلها ونحن خارجها. مصابون بالسفر ونحن في الإقامة. مصابون بالإقامة ونحن في السفر. لا شيء يعادل أن نكون على ارتباط والتحام بأوطاننا.وطننا ليس الأرض والسماء والطبيعة في أرضه. إنه البشر، بسطاؤهم خصوصاً، أولئك الذين لا يجف ماء الحكمة فيهم.يعلّمنا السفر أن نتمعّن في حال الوطن ونحن خارج دائرته في سفر معرفة أو عمل أو طلب رزق أو تقديم صورة عنه هناك في تجمّعات بشرية جاءت لتفعل شعراً لا أن تقوله فحسب. تفعله بمعنى أن يكون صادراً عن أرواح لا عن ذاكرة ومخزون لغوي. الوطن في هذه الحالة يكون أنيقاً أكثر بالشعر.يعلّمنا النأي المؤقت أن نكون دائمي الالتصاق بتربة الأرض التي ننتمي إليها، أن نخاف، نتوجس، نسهر، نحرص على أن تكون أوطاننا في أفضل حالاتها، وأجمل صورها.يمكن لأي منا أن يلتقط ما يناسبه من ملامح وطنه في أي بلاد؛ ففي أوطان الدنيا ثمة ملمح أو صورة تأخذ بيدك تذكيراً بالمكان الذي جئت منه وتنتمي إليه. تجد في تاريخها رائحة لا تُنسى، تماماً كما لوطنك تاريخ لا تنسى رائحته. مقيمة حيث نقيم، وتلوّح بالمضيء والنقيض أيضاً؛ لكن الأرواح تظل مسكونة بالمضيء ولو كان شحيحاً، من دون أن تنسى المقابل له.للحاضر في أي بلاد حركة أيضاً وروح وثّابة، تذكّرنا بحاضر تركناه بشكل مؤقت ونحن نلوذ بالحنين في أقصى بقاع الأرض. لعلّنا نشفى ولو قليلاً، ولكن هل يُشفي الحنين؟ كثيراً ما يفعل ذلك، وكثيراً ما يفشل أيضاً. المهم أن له سيرة في الشفاء.في سفرنا تنشيط للذاكرة التي ظلت مرتهنة للمتكرر من جمود الحياة من حولنا، أو تكرار فعلها الذي لا ينقطع. التكرار بمعنى الإقامة في السأم والضجر، والفرح الذي يكتفي بالتلويح لك كالعابر الغريب؛ لكنه يظل فرحاً ولو بملامح نكاد لا نراها.وفي السفر قوة لأرواحنا التي تكاد تذبل. لعيوننا المنذورة للماء الأبيض، ذلك الذي يحول بينك وبين ألوان الفرح والجمال في أرض الله، والبشر في إقبالهم على الحياة باتزان وحكمة وحب.الإقامة تدفعنا دفعاً إلى الذبول وربما الشيخوخة المبكرة. السفر شباب. في الإقامة استدعاء وتراكم لضجر متاح وتحت الطلب. الفرح والحيوية ليسا كذلك. إنهما من صنع الإنسان، من أعصابه وقدرته على التحمل ومواجهة الحياة بحلوها ومرّها.نريد أن نقيم كلما صنعنا الفرح ووزعنا حصصه اللائقة على الناس من حولنا وخصوصاً الذين نحب.نلوذ بالسفر حين يشح ذلك الفرح، أو لأننا نريد أن نكتشفه في بلاد الله الواسعة التي لا يخلو منها. نتزوّد بالكثير منه، نغترف ما نستطيع لننسجم مع أنفسنا أولاً والعالم من حولنا ثانياً. sawsanon@gmail.com
مشاركة :