قال الشيخ عبدالله المناعي خطيب جامع الخالد في خطبة الجمعة: إنَّ الله فرض فرائضَ فلا تضيِّعوها، وسنَّ سننًا فلا تتركوها، وإنَّ الله تبارك وتعالى قد فرض على عباده الحجَّ فريضةً من أكبر وأعظم الفرائض، الحجّ هو تلك الرِّحلة الفريدة في عالَم الأسفار والرحلات، ينتقل المسلم فيها برُوحه وبدنه وقلبه إلى البلَد الأمين لمناجاة ربِّ العالمين. ما أرْوعها من رحلة! وما أعظَمَه من منظر يأخذ الألباب! فهل شممتَ عبيرًا أزْكى من غبار المُحْرمين؟! وهل رأيت لباسًا قطّ أجْمل من لباس الحجَّاج والمعتمرين؟! هل رأيت رؤوسًا أعزَّ وأكرَم من رؤوس المحلّقين والمقصّرين؟! وهل مرَّ بك ركبٌ أشرف مِن ركب الطَّائفين؟! وهل سمعْتَ نظمًا أرْوع وأعْذب من تلبية الملبِّين، وأنين التَّائبين، وتأوُّه الخاشعين، ومناجاة المنكسِرين؟! فكان في إيجابه تذكيرٌ ليوم الحشر، بمفارقة المال والأهل، وخضوع العزيز والذَّليل، في الوقوف بين يديْه، واجتماع المطيع والعاصي، في الرَّهبة منه والرَّغبة إليه، مرَّة في العمر، وهو الرّكن الخامس من أركان الإسلام، إنَّ الله بيَّن ذلك في كتابه وفي سنَّة رسوله صلَّى الله عليه وسلَّم ووضع الأجْرَ العظيم والكبيرَ لمن فعله مخلصًا لله وحده، ومَن تركه تهاونًا وهو قادر فعليْه الوعيد الشَّديد، فبادر يا مَن أنت مقتدر قبْل انقطاع العمر والعمل. وأضاف: ننقل السياق الآنَ إلى مواكب الحجيج وإقْلاع أهل المعاصي عمَّا اجترحوه، وندم المذْنبين على ما أسْلفوه، فقَلَّ مَن حجَّ إلاَّ وأحدث توبة من ذنب، وإقلاعًا عن معصِية؛ ولذلك قال بعض السَّلف: «من علامة الحجَّة المبرورة أن يكون صاحبُها بعدها خيرًا منه قبلها». وهذا صحيح؛ لأن النَّدم على الذنوب مانع من الإقدام عليْها. يا لجلال الموقف! ويا للروعة والعظمة! السَّماء هناك في مهرجان نوراني يتنزَّل فيه الرُّوح والملَك، سبحانك ربِّي، ما أعظمك وأعدلك! حين شرعت لنا هذا المنسكَ العظيم الَّذي تتجلَّى فيه رُوح المساواة والوحْدة، والسَّلام والمساواة واضحةً جليَّةً؛ فالجميع قد طرحوا الملابِس والأزْياء وظهروا في زيٍّ واحد، الغنيّ والفقير، والأمير والحقير، والطَّائع والعاصي. والوحْدة ترى معناها في الحجِّ واضحًا جليًّا كالشَّمس، ناصعًا كالبدر، وحْدة في المشاعر ووحدة في الشعائر، لا عنصريَّة ولا عصبيَّة للونٍ أو جنسٍ أو طبقية. ولا بدَّ لِلمسلمين أن يحقِّقوا معنى التَّوحيد والوحْدة. التَّوحيد حقّ لله عزَّ وجلَّ والوحْدة حقّ الجماعة المسلِمة؛ ومن الحكم والدروس في الحج أنَّه يذكِّر الإنسان باليوم الآخر؛ فالإنسان منذ أن يَخلع ملابسَه ويلبس ملابِس الإحْرام البيْضاء، فإن ذلك يذكِّره باليوْم الآخِر الَّذي يُجرّد فيه من ملابسه بعد موتِه، ويكفَّن في قطعة من القماش الأبيض، وقبل ذلك سفره عنِ الأوْطان ووداعه الأهلَ والأبناءَ والأقاربَ راحلاً للحج، فينبغي أن يذكِّره بسفره الأخير إلى الدَّار الآخرة، على المسلِم أن يتذكَّر بزحمة الطَّواف والسَّعي والرَّمي ذلك الزّحام الرَّهيب يوم يقوم النَّاس لرب العالمين، يوم يَجمع الله الأوَّلين والآخِرين في صعيدٍ واحد، وأن يتذكَّر بحرارة الشَّمس في مكَّة يومًا تدنو الشَّمس فيه من رؤوس الخلائق قدْر ميل، وأن يتذكَّر بالتَّعب والضنك والعرَق المتصبِّب من على جسدِه وأجساد النَّاس من حوله، ذلك اليوم الرَّهيب والموقف المهول يوم يبلغ النَّاس في العرق مبلغًا عظيمًا يَختلفون فيه بحسب أعمالِهم وإيمانِهم. ولا يسعنا من هذا المكان الطاهر الا ان نشكر حكومة خادم الحرمين الشريفين قيادةً وشعبًا بما يقدمونه لضيوف الرحمن من خدمات جليلة وكرم وخدمة الحجاج بالرعاية والاهتمام، الامر الذي كان محط اعجاب وأشادة جميع من وصلوا إلى بلاد الحرمين الشريفين لأداء مناسك الحج ومد يد العون لكل محتاج وحسن الاستقبال والترحيب بالروح والمحبة سادت جميع الحجيج، نسأل الله ان يحفظ بلاد الحرمين الشريفين وأن يديم عليها نعمة الامن والامان على ما تقدمه لخدمة الحرمين الشريفين وحجاج بيته الكريم عما يتشرفون بتقديمه من خدمات وحسن الضيافة لراحة وتيسير حجاج بيت الله الحرام. وعلى المسلِم أن يتذكَّر بوقوفِه يوم عرفة وقوفَه بين يدَي الله عزَّ وجلَّ. واستطرد قائلا: لنتذكَّر جميعًا أطْهر نفسٍ أحْرمت، وأزْكى روح هتفتْ، وأفضل قدمٍ طافت وسعَت، وأعذَب شفة نطقتْ وكبَّرت وهلَّلت، وأشرف يدٍ رمَت واستلمتْ، هنا تتراءى لنا تلك الرَّوعة، حيث ينقل خطاه في المشاعِر، ينتقل مع أصحابه ومحبِّيه مردِّدين تلك النغمة الرَّائعة، ومترنِّمين بتلك العبارات الناصِعة: «لبَّيك اللهمَّ لبَّيك، لبَّيك لا شريكَ لك لبَّيك، إنَّ الحمد والنِّعْمة لك والملك، لا شريكَ لك». وفي هذه الأيام العشر يشرع للمؤمن الاكثار من التهليل والتكبير والتحميد، ولقد دلَّت النُّصوص على أنَّ كل عمل صالح يقع في هذه الأيام هو أحب إلى الله تعالى من نفسه إذا وقع في غيرها، وإذا كان أحب إلى الله فهو أفضل عنده، وإن العامل في هذه العشر أفضل من المجاهد الذي رجع بنفسه وماله. ويا من فاته العمل في أيام وليالي شهر رمضان المبارك دونك هذه الأيام، هي أفضل أيام الدُّنيا على الإطلاق، وفضلها يزيد على فضل أيام رمضان. إنَّ من فضائل هذه الأيام أنَّ العبادات تجتمع فيها، ولا تَجتمع في غيرها، فهي أيام الكمال، ففيها الصلوات كما في غيرها، وفيها الصَّدقة، وفيها الصوم لمن أراد القضاء والتطوُّع، وفيها الحج إلى بيت الله، ولا يكون في غيرها، وفيها الذِّكر والتلبية والدُّعاء، واجتماع هذه العبادات فيها شرفٌ لها لا يضاهيها غيرها، ولا يُساويها سواها. نعم معاشر المسلمين، فهذه الأيام العشر جمعت عبادات وفضائل كثيرة جدير بكل مؤمن حريص المبادرة إلى اغتنامها في العمل الصالح من صلاة وذكر وصيام وحج وتقرب إلى الله سبحانه بذبح الاضاحي والهدي طلبًا للظفر بالاجر والثواب.
مشاركة :