هل ستنسحب الولايات المتحدة الأميركية من سوريا أم إنها ستبقى لمدة أطول بناء على مقتضيات استراتيجية؟ إذا تمكنّا من الإجابة عن هذا السؤال المزدوج، يكون في مقدورنا التكهّن إلى حدٍ ما بطبيعة الملامح الرئيسة التي سيتسم بها الحل، أو بتعبير أدقّ المخرج، المنتظر في سوريا. ولعل صعوبة الإجابة عن هكذا سؤال تتمثّل في تعارض، بل تناقض، المؤشرات التي قد تسعفنا في عملية السعي من أجل تقديم الإجابة بعضها مع بعض. فمع إعلان كل من النظام السوري و”قسد” عن نيتهما في إجراء المباحثات، وتوجه أكثر من وفد بصورة علنية إلى دمشق بغية التنسيق، والتوافق على الخطوات اللاحقة؛ تعزّز الاعتقاد بأن الولايات المتحدة ستأخذ بوجهة نظر رئيسها حول ضرورة الانسحاب السريع من سوريا، وذلك بعد أن “تم القضاء على داعش” وفق تقديره. هذا في حين أن تصريحات أخرى من مسؤولين في الإدارة الأميركية، على مستويات مختلفة وبأشكال متنوعة، أكدت أن أميركا باقية في سوريا إلى حين التوصل إلى حل شامل وإجراء الانتخابات، الأمر الذي يمكن تأويله على أكثر من وجه. هل هو الحل الشامل في سوريا وحدها أم في المنطقة بأسرها؟ وهل لهذا الموضوع علاقة ما بالضغوط الاقتصادية على كل من إيران وتركيا، وما يُسرَّب هنا وهناك حول صفقة القرن؟ أم أن الموضوع لا يتجاوز النطاق السوري الذي يبدو أن الروس هم الأكثر تحكّما بتفاصيل ملفاته، بدءا من اتفاقيات خفض التصعيد وتبعاتها، مرورا بسوتشي واللجنة الدستورية، وصولا إلى موضوع عودة اللاجئين وإعادة الإعمار، وغيرها من التفاصيل التي تبدو أميركا في الظاهر المعلن بعيدة عنها؟ غير أن الجميع يدرك أن موقف الأخيرة النهائي هو الذي سيحسم الموقف، وهذا ما يحيلنا مجددا إلى السؤال المزدوج الذي بدأنا به، وفحواه: هل ستبقى أميركا في منطقة شمال شرقي سوريا أما إنها ستنسحب؟ ومرة أخرى نقول: إن الإشارات والقرائن تحتمل الأمرين معا. فتعيين السفير جيمس جيفري مستشارا، وممثلا لوزير الخارجية الأميركي للشؤون السورية، أمر له دلالته. لأن الرجل كان منتقدا لأسلوب ومنهجية تعامل إدارة الرئيس أوباما مع الملف السوري، وهو من أنصار تقليص الدور الإيراني في المنطقة، وليس من أنصار إعطاء دور مؤثر للروس في شؤون المنطقة. ولديه تجربة غنية في هذا المجال، ولا سيما في العراق حيث عمل سفيرا. لكن في المقابل نرى أن ما يستوجب التمعن والتوقف عنده، هو أن يعلن الرئيس الأميركي بنفسه عبر تغريدة من تغريداته المتواصلة بأنه قد قرر إيقاف المساعدات المالية الأميركية المدنية للمناطق الخاضعة حاليا للنفوذ الأميركي، وتكليف الدول العربية الغنية بهذه المهمة. أما إعلان المبعوث الرئاسي الخاص للتحالف الدولي لمكافحة داعش بريت ماكغورك عن أن أميركا باقية في سوريا، وذلك بعد زيارته إلى الرقة، فذلك أيضا يدخل في خانة ما يحتمل أكثر من تفسير. فهو قد يعكس استقرار التأرجح الأميركي على موقف محدد في الملف السوري، ربما يستمر لفترة ريثما يتم التأكد من مدى التزام الروس بقضية الحد من النفوذ الإيراني في سوريا. أو إنه قد يعتمد تكتيكا للضغط على النظام في ميدان الترتيبات التي ستكون في المنطقة بعد الانسحاب الأميركي. أو ربما تكون للموضوع علاقة بما يجري، وسيجري، في منطقة إدلب، والضغط على تركيا ليس من أجل فك الارتباط النهائي مع هيئة تحرير الشام فحسب، بل من أجل تفكيك هذه الهيئة، وترتيب الأوضاع بطريقة تنضم بموجبها إدلب إلى المناطق الأخرى التي تم إخضاعها شكليا للنظام، مع الأخذ بعين الاعتبار مسألة النفوذ التركي، وذلك من جهة العمق الذي سيكون عليه، والشكل الذي سيأخذه مستقبلا. كما أن الإعلان الأميركي عن التدريبات المشتركة مع القوات التركية في منطقة منبج، إلى جانب تغريدة وزير الخارجية الأميركي بخصوص البقاء في سوريا إلى حين الوصول إلى حلٍ سياسي، وإجراء الانتخابات بموجب قرار مجلس الأمن 2254؛ هي معطيات تؤكد أن الموقف الأميركي النهائي بخصوص سوريا ما زال في دائرة الضباب. فالحديث عن الانتخابات مرتبط بتوافق سياسي غائب حول شكل الدولة، ونظامه، وتوزع سلطاتها. كما أن حديثا كهذا يظل مجرد صيغة مبهمة من دون دستور يقوم بصياغته حقوقيون مهنيون سوريون، بعد التوافق السياسي المذكور. وكل ذلك يستوجب مصالحة وطنية حقيقية بين من يمثلون بالفعل إرادة السوريين على اختلاف مواقعهم وتوجهاتهم وانتماءاتهم، ويجسّدون رغبتهم في العيش المشترك على قاعدة احترام الحقوق والخصوصيات ضمن إطار وحدة الوطن. فالانتصارات العسكرية التي يتشدّق بها النظام هذه الأيام، يعلم الجميع، والنظام أولهم، أنها كانت مجرد صفقات عقدت نتيجة ضغوط وتدخلات القوى الإقليمية والدولية. وفي جميع الأحوال، لا يمكن أن تعد الهيمنة العسكرية في أي مرحلة من المراحل مقدمة لإحلال الأمن والسلام في سوريا، وطريقا نحو إعادة الإعمار وعودة اللاجئين، ما لم يكن هناك توافق سياسي اجتماعي، يتوقف مطولا عند العوامل التي أدت إلى ما نحن عليه الآن، من أجل معالجتها. ومن دون ذلك ستستمر الأزمة بأشكال أخرى. فالنظام قبل الثورة كان يهيمن على مفاصل الدولة والمجتمع، ويتحكّم بالجيش والأجهزة الأمنية ومقدرات البلاد. ومع ذلك لم يتمكن من منع السوريين العزّل من الخروج بالملايين في معظم المدن والبلدات للمطالبة بالإصلاح أولا، ثم تطور الأمر لاحقا، نتيجة ممارسات النظام، إلى المطالبة برحيل هذا الأخير. ولا ننكر هنا أن النظام قد تمكن بأحابيله، وبخبرته وإمكانياته المخابراتية، وبدعم ومساندة غير محدودين من راعيه الإيراني، من إخراج الثورة السورية عن مسارها الطبيعي، وإلصاق تهمة الإرهاب بها، بعد أن تمكّن من إغراقها بالفصائل الإسلاموية المتشددة، والتنظيمات الإرهابية التي لديه باع طويل في التعامل معها، بل وفي تشكيلها، وتسويقها، وتكليفها بمهمات تنسجم مع خططه. غير أن اللعبة برمتها قد انكشفت، وتكونت قناعة راسخة لدى السوريين بأن ما ينقذهم هو المشروع الوطني الجامع، الذي يقطع مع التشدد الديني وكذلك القومي. هذا المشروع الذي لا بد أن يكون بالجميع وللجميع. مشروع يفسح المجال أمام كل السوريين للمشاركة من موقع الفاعل في استعادة وحدة نسيجهم المجتمعي المتنوع بطبيعته، وبناء وطنهم، لتكون سوريا واحة للاستقرار والأمن الإقليميين، وساحة لتمازج حضاري معرفي يُطمئن أجيالنا المقبلة في سوريا والمنطقة كلها، وذلك عبر توفير المقومات الضامنة لتأمين فرض العلم والعمل والإبداع بصورة عادلة، ومن دون أي تمييز.
مشاركة :