كشف لقاء مستشار الأمن القومي جون بولتن مع نظيره الروسي نيكولاي باتروشيف وديناميكية التصريحات والتصريحات المضادة التي سبقت اللقاء، ثم ما صدر بعد ذلك عن الروس والأميركيين، عن لعبة مزدوجة يلعبها الطرفان، اللذان يلتقيان عند نقطة تحجيم نفوذ إيران في سوريا، لكنهما يختلفان في طريقة تنفيذ الخطة التي أعدت لذلك، حيث تسعى واشنطن للدفع بموسكو إلى قلب المواجهة المباشرة مع طهران، في حين يضع الروس في الاعتبار مصالحهم بعيدة المدى مع الإيرانيين، وإن كانوا يتطلعون إلى تضييق الخناق عليهم في سوريا، ويرغبون في جر الأميركيين إلى دفع ثمن أكبر للضغط على الإيرانيين جنيف - أفرجت الأجواء التي أحاطت بالاجتماع الذي عقد مع مستشار الأمن الأميركي جون بولتون وسكرتير مجلس الأمن الروسي نيكولاي باتروشيف عن مجموعة من المستجدات التي طرأت على السياسة الأميركية إزاء سوريا وعن تطور جديد في كيفية مقاربة العلاقات بين روسيا والولايات المتحدة. وعلى الرغم مما أشيع من حديث عن خلاف بين الرجلين، وبالتالي بين الدولتين، حول مجموعة من القضايا أهمها تدخل روسيا في الانتخابات الأميركية، حال دون عقد مؤتمر صحافي مشترك، يعتبر المراقبون أن الإعلان عن عودة التواصل الأمني والعسكري بين البلدين يكشف أن موسكو وواشنطن عازمتان على تكثيف التنسيق والتعاون بينهما للتوصل إلى قواعد مشتركة للعمل في عدة ملفات، أهمها ملف سوريا وهدف إخراج إيران من هذا البلد. وقال بولتون، في مؤتمر صحافي بُعَيْد انتهاء محادثاته مع باتروشيف،”أعتقد أننا حققنا تقدما كبيرا؛ حددنا مجالات معينة يمكن استعادة قنوات الاتصال فيها والمزيد من العمل الذي ينبغي أن تقوم به الوكالات المعنية مثل وزارة الخارجية ووزارة الدفاع وغيرهما”. ونسبت وكالات أنباء روسية إلى باتروشيف قوله إنهما اتفقا بشكل عام على إعادة فتح قنوات التواصل بين وزارتي الخارجية والدفاع في البلدين. وأبلغ بولتون نظيره الروسي رسالة واضحة تفيد بعزم الإدارة الأميركية على المضي قدما في ضغوطها التي ستتصاعد ضد إيران كما العزم على أن تؤدي هذه الضغوط إلى خروج أي حضور إيراني من سوريا. وشدّد مستشار الأمن القومي الأميركي على أن أمر تخليص سوريا من نفوذ طهران بات استراتيجية بالنسبة للولايات المتحدة وليس تكتيكا قابلا للتراجع عنه، وأن مستقبل أي تسوية سياسية في سوريا يجب أن يأخذ بعين الاعتبار خروج إيران النهائي من سوريا. وقالت مصادر أميركية ضمن الوفد المرافق لبولتون إن مسألة خروج إيران من سوريا ليست مطلبا أميركيا على علاقة بانسحاب واشنطن من الاتفاق النووي مع إيران، بل هي مطلب تجمع عليه العواصم الكبرى بما في ذلك دول الاتحاد الأوروبي والصين وحتى روسيا وإن كانت إيقاعات الجهر بذلك تختلف من عاصمة إلى أخرى، وأن مناقشة الأمر مع روسيا تتعلق بتوقيت وكيفية تنفيذ هذا المطلب الدولي الجامع. خطة روسيا قال بولتون في جنيف إن الولايات المتحدة تريد أن تغادر القوات الإيرانية سوريا، لكن واشنطن ترفض خطة روسيا لربط مثل هذه العملية بتنازلات أميركية. ويبدو واضحا أن المسؤول الأميركي تقصّد عشية لقائه بباتروشيف التصريح علنا بالاستراتيجية الأميركية الجديدة المتعلقة بسوريا على نحو يلزم الطرف الروسي بالنقاش تحت سقفها. وسعى الأميركيون إلى حشر الروس في الزاوية من خلال تصريح أدلى به مصدر في الإدارة الأميركية (لم يكشف عن اسمه) لوسائل الإعلام، قال فيه إن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين ونظيره الأميركي دونالد ترامب اتفقا أثناء قمتهما الأخيرة في هلسنكي على ضرورة خروج إيران من سوريا. تخليص سوريا من نفوذ طهران بات استراتيجية بالنسبة إلى الولايات المتحدة وليس تكتيكا قابلا للتراجع عنه وكرر المعلومة ذاتها بولتون الذي ذهب إلى حد القول إن “الرئيس الروسي فلاديمير بوتين متفق مع الولايات المتحدة على ضرورة إخراج القوات الإيرانية من سوريا”، وإن اختلف الطرفان حول الخطة الأنسب. وكشف بولتون، عشية لقاء جنيف مع باتروشيف، عن أن الرئيس الروسي أبلغ نظيره الأميركي عدم قدرة روسيا على إجبار إيران على الانسحاب من سوريا. ويفسّر المراقبون الموقف الروسي على أنه كيل بمكيالين من موسكو، التي تريد تضييق مساحة النفوذ الإيراني في سوريا دون تأثير ذلك على بقية المصالح المشتركة بين إيران وروسيا، التي تعد المستفيد الأكبر من أزمة العقوبات المفروضة على حليفتها. وهنا، تبدو تصريحات صدرت عن مقربين من الكرملين حول أن طلب خروج إيران من سوريا “سابق لأوانه”، أقرب إلى محاولة تبرئة ذمة تستطيع موسكو استخدامها لإقناع الطرف الإيراني بالتجاوب مع الجهود الروسية بضمان استمرار موسكو في الدفاع عن المصالح الإيرانية في المحافل الدولية، منها إلى رفض مباشر للعرض الأميركي بالتعاون على إخراج إيران من سوريا. يؤكد هذا الموقف على أن مطلب خروج إيران من سوريا ليس متعارضا مع الأجندة الروسية في هذا البلد، وأن الأمر متعلق بالتوقيت المناسب وربما بالثمن الذي على واشنطن وحلفائها الأوروبيين دفعه مقابل قيام روسيا بهذا التحول الراديكالي ضد إيران في سوريا. واعتبر المحلل السياسي اللبناني خيرالله خيرالله أنه “يمكن لروسيا أن تستفيد من الميليشيات المذهبية الإيرانية الموجودة ومن التذرع بأن ليس في استطاعتها إجبار إيران على الانسحاب من كلّ سوريا، لكن ما لا تستطيعه روسيا في نهاية المطاف تكرار أخطاء الماضي عبر البناء على نظام غير شرعي يظن أن لديه القدرة على اللعب على التناقضات”. وقال خيرالله، لـ”العرب”، إن المشروع الروسي في سوريا لن يتقدّم خطوة إلى الأمام في غياب القدرة على الخروج من لعبة حلف الأقلّيات. وأضاف أنه يمكن لروسيا الاستفادة إلى أبعد الحدود من الحلف الذي أقامته مع إسرائيل ومن غياب الاستراتيجية الأميركية الواضحة في الشرق الأوسط عموما وسوريا على وجه التحديد. قلق روسي تراقب موسكو باهتمام وقلق التحول الكبير الذي طرأ في الأسابيع الأخيرة على موقف واشنطن من الأزمة في سوريا، خاصة تأكيد بولتون أن واشنطن لن تسحب قواتها من سوريا. كما تثير تحركات الجماعات الجهادية القلق من العودة إلى لعبة الحرب على الإرهاب. ويمكن اعتبار البيان الصادر عن زعيم تنظيم الدولة الإسلامية أبوبكر البغدادي، بالتزامن مع المحادثات بين المسؤولين الروس والأميركيين، إنذارا. خيرالله خيرالله: روسيا تتذرع بأن ليس في استطاعتها إجبار إيران على الانسحاب من كل سوريا خيرالله خيرالله: روسيا تتذرع بأن ليس في استطاعتها إجبار إيران على الانسحاب من كل سوريا وكانت موسكو مرتاحة للتصريحات التي صدرت عن الرئيس الأميركي في أبريل الماضي والتي وعد فيها بسحب كامل للقوات الأميركية من سوريا، كما كانت مطمئنة للإشارات المتعددة التي بعثها ترامب، والتي كانت تشي بأن واشنطن ما زالت غير معنية بمستقبل الشأن السوري، وأنها ما زالت مستمرة في السياسات التي اعتمدتها إدارة الرئيس السابق باراك أوباما، من حيث منح بوتين “وكالة” كاملة لتدبير الشأن السوري على المستويين العسكري والسياسي. لكن واشنطن بدّلت هذه السياسات وكثفت المواقف التي تكاملت مع مواقف أوروبية لرفض أي حديث عن تمويل لإعادة الإعمار قبل التوصل إلى تسوية سياسية في سوريا.وصدر عن واشنطن في هذا الصدد ما يفيد بأن معايير التسوية، كما عودة اللاجئين، لا يجب أن تخضع لما تراه موسكو أو واشنطن أو أوروبا بل ينبغي أن تحظى بقبول الأمم المتحدة. ويعتبر دبلوماسيون أميركيون أن تعيين وزير الخارجية الأميركي مايك بومبيو مبعوثا له إلى سوريا (جيمس جيفري) معني بمتابعة مسألة “الحل السياسي” هناك، وتعيين نائب له (جويل رايبرن) عسكريّ الخلفية، للعمل في ساحات المنطقة ضد التواجد الإيراني لا سيما في سوريا، يمثّلان “عودة” أميركية إلى لعب دور أساسي فاعل، خصوصا أن هذا الأخير عقد اجتماعا مع ممثلين للمعارضة السورية أثناء رحلته الأخيرة إلى تركيا. في هذا الإطار ينزل المراقبون تصريحات سيرجي ريابكوف نائب وزير الخارجية الروسي، التي يقول فيها إن موسكو رصدت محاولات من واشنطن للتراجع عن اتفاقات مبدئية بين بوتين وترامب خلال قمة هلسنكي. بدورها، لا تخلو تصريحات مستشار ترامب للأمن القومي الأميركي، المتعلقة برفض واشنطن خطة روسيا لانسحاب إيران من سوريا، من غايات “داخلية”، حيث تقول أوساط متابعة في واشنطن إن تصريحات بولتون الحازمة ضد موسكو، بخصوص إيران، والتي ألحق بها تحذيرات من أي تدخل في الانتخابات النصفية للكونغرس، تعكس حاجة الإدارة الأميركية إلى اتخاذ مواقف صقورية لحماية الرئيس الذي يتعرض لضغوط ترتبط بشبهة تعاونه مع روسيا في مسألة تدخلها في الانتخابات الرئاسية عام 2016. وقال بولتون وباتروشيف إن الخلافات حول مسألة التدخل الروسي في انتخابات الرئاسة الأميركية منعتهما من إصدار بيان مشترك. وصرح بولتون “لقد أوضحت أننا لن نتسامح مع التدخل في انتخابات 2018،”. وفي مختلف السياقات، تتفق القراءات على أن الحزم الأميركي حيال موسكو جاء ليبدد اللغط الذي دار حول قمة هلسنكي الغامضة بين الرئيسين الأميركي والروسي، وأن حراك بولتون وبومبيو ووزير الدفاع جيمس ماتيس في المسائل المتعلقة بمصير الحضور الإيراني في سوريا يعبر عن مصالح الدولة العميقة التي لن تتأثر بمستقبل ترامب ومصيره في رئاسة الولايات المتحدة.
مشاركة :