ثمة أقدار من الاختزال والتسطيح والفوضى السائدة في الثقافة، المكتوبة بالعربية في الأقل، حين يتعلق الأمر بحبرٍ كثير، سالَ ولا يزال، في معرض تفسير الظاهرة. يسري التوصيف المذكور أيضاً على تحليلات ومقالات، بل ومقترحات عملية، تتعلق بسُبُل التعامل مع الأزمة المذكورة وتجاوزها. وإذ يبقى التاريخ معرض التجارب والدروس، وكان استقراؤها لا يضر على الإطلاق، إن لم ينفع، فالحدثُ التركي اليوم مدعاةٌ للمراجعات، ليس فقط على المستويين المحليين السياسي والاقتصادي في تركيا، بل على مستوى الفكر السياسي، والديني، العربي تحديداً، والإنساني في شكلٍ عام. لا يخفى على مراقبٍ ما فعل حزب العدالة والتنمية بتركيا، ولها، على مدى اثني عشرَ عاماً. وإذا أخذنا في الاعتبار أوضاعَ البلاد، الاقتصادي والاجتماعي والثقافي والسياسي، في الثمانينات والتسعينات، لا يمكن وصف ما حدث في تركيا إلا بأنه إنجاز. ما يستحق التفكير أن الوجهَ الأبرز للإنجاز ذاك لا يكمن في الفهم الإسلامي التقليدي لمفهوم المعجزة، حيث تتدخل السماء في شكلٍ مباشر، يخالف قوانين الاجتماع البشري على الأرض، لتفرضَ واقعاً معيناً. على العكسِ تماماً، يكمن إيجاز التجربة التركية في «أرضيتها» الشديدة، بأنها كانت صناعة إنسانيةٌ خالصة. بل إنها كانت، في جوهرها، تصحيحاً لمفهوم العلاقة بين الأرض والسماء. ما الذي جرى إذاً، ليس فقط في الأسابيع الماضية، بل وفي السنوات القليلة الماضية؟ ولماذا لا تتسع دائرة البحث في الموضوع، بحيث يضحي فرصةً لتذكيرنا بأزماتنا، بدل صرفنا عن التفكير فيها؟ في مثل هذه الأيام، وقبل عشرين عاماً، حُكم على رجب طيب أردوغان، عمدة إسطنبول يومذاك، بالسجن أربعة أشهر بعدما قال أبياتاً من الشعر رأت فيها محكمة ديار بكر تحريضاً على قلب النظام العلماني وإثارة مشاعر الحقد الديني بين أفراد الشعب. وفي طريقه إلى السجن خاطب الرجل أنصاره بقوله: «لست ممتعضاً، ولا حاقداً ضد دولتي، ولم يكن كفاحي إلا من أجل سعادة أمتي، وسأمضي وقتي خلال هذه الأشهر الأربعة في دراسة المشروعات التي توصل بلدي إلى أعوام الألفية الثالثة، والتي ستكون إن شاء الله أعواماً جميلة، لكن ذلك يحتاج منا جهداً كبيراً وعملاً شاقاً. سأعمل بجد داخل السجن، وأنتم اعملوا خارج السجن كل ما تستطيعونه. ابذلوا جهودكم لتكونوا معماريين جيدين وأطباء جيدين، وحقوقيين متميزين، أنا ذاهب لتأدية واجبي، واذهبوا أنتم أيضاً لتؤدوا واجبكم، إن الشعب يستطيع بتجربته التاريخية الواسعة أن يرى كل شيء ويقيم كل شيء في شكل صحيح، وما يجب عمله الآن ليس إعطاء إشارة أو رسالة إلى الشعب، وإنما الفهم الصحيح لما يريده الشعب». نذكر هنا أن قرابة خمسين في المئة لم تصوت لحزب العدالة والتنمية، وأن النسبة ذاتها لم تصوت لأردوغان رئيساً، في انتخابات لم يتجاوز عمرها ثلاثة شهور. باستصحاب العبارة الأخيرة في التصريح السابق، يبدو هذا الواقع كافياً لرفض اختزال تفسير أزمة الليرة التركية في حرب اقتصادية تشنها أميركا وغيرها عليها، وتجنب الغرق الكلي في نظرية المؤامرة والحرب الاقتصادية. نعم، هذه القضايا موجودة في النظام العالمي وبين كل الدول، لكن استعمالها حصراً لتفسير الظاهرة يحرمنا من معرفة نصيب تركيا ونظامها الاقتصادي والسياسي من المشكلة، ويرسخ في العقول فكرة إلقاء كل المشكلات على الآخرين، واعتماد خطاب «المظلومية» والشكوى والاتهام سلاحاً وحيداً في التعامل مع أزماتنا ومع العالم، لا سيما أن كثيرين ممن يفعلون ذلك عرب. فطموح تركيا كبير سياسياً واقتصادياً، ويمكن القول إنه تجاوز الدور الإقليمي بحثاً عن موقعٍ متقدم في هذا العالم. طبيعي إذاً، أن تدخل البلاد في معادلات صراع النفوذ الدولية، وما يصاحبها من مواجهات على كل صعيد. أول ما يمكن التذكير به هنا أن الحرب الاقتصادية الأميركية بدأت ضد أوروبا والصين منذ بداية العام. فحين كانت قيمة الدولار أقل من أربع ليرات تركية، وفي العاشر من آذار (مارس) الفائت، كانت أحد عشر دولةً من بينها اليابان وكندا توقع اتفاقا للتجارة في آسيا والمحيط الهادئ من دون الولايات المتحدة. كان هذا إجراءً قال مسؤولون في تلك الدول إنه إشارة قوية في مواجهة الحماية والحروب التجارية، وردٌ على خطط إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب لفرض رسوم جمركية على واردات الصلب والألومنيوم وغيرها من الإجراءات. وهو تحرك قالت دول أخرى، معها «صندوق النقد الدولي»، إنه قد يؤدي إلى نشوب حرب تجارية عالمية. بعد ذلك بيوم، صرح وزير التجارة الصيني تشونغ شان قائلاً: «نحن قادرون على مقاومة أي تحد وعلى الدفاع بثبات عن مصالح البلاد والشعب». جاء هذا في معرض التعليق على السياسات الاقتصادية الأميركية التي عبرت بكين عن «معارضتها الشديدة» لها، بل رأت فيها «هجوماً متعمداً على النظام التجاري التعددي»، حسب وزارة التجارة الصينية. في الفترة ذاتها أيضاً، أعلنت المفوضية الأوروبية عن قائمة منتجات أميركية قد تشملها إجراءات مضادة إذا تم فرض رسوم على الصادرات الأوروبية. وقال رئيس المفوضية الأوروبية جان كلود يونكر، متهكماً على ترامب، إن الاتحاد الأوروبي قد يعمد إلى «مواجهة الغباء بالغباء». من هنا تحديداً، يدخل التجاهل السائد في الكتابات العربية للحقائق المذكورة أعلاه، في معرض تفسير أزمة الليرة التركية، والتركيز على حربٍ حصرية ضد تركيا، في خانة الاختزال في أحسن الأحوال، لأن بديل ذلك سيكون الجهل بما يجري في هذا العالم. وإذا كان استحضار الانقلاب العسكري الفاشل منذ عامين مشروعاً، بكل ملابساته، في معرض الحديث عن التحديات التي تواجه تركيا، فإن من المشروع أيضاً طرحُ أسئلة تتعلق بسياسات حكومة العدالة والتنمية ذاتها، وممارسات رئيسها. هذا كلام من الأرجح أن يثير غضب عرب كثر، منهم إسلاميون خصوصاً يتلبسون حالة أن تكون ملَكياً أكثر من الملك. في حين أن المرء طرح سابقاً أسئلة مثلها في الصحافة التركية ذاتها: هل ساهم حزب العدالة والتنمية نفسه في عودة «الأيديولوجيا»، وخرق التوازنات الحساسة التي كانت تحكم تجربته السياسية قبل ذلك؟ هل تغيرت المعادلات المتعلقة بالاهتمام بالمقاصد بدلاً من القوالب والأشكال الخارجية، والتركيز على المضامين بدلاً من الشعارات والعناوين، وبعالم الحضور والشهادة بدلاً من الغرق في عالم الغيب، وباعتبار «الواقعية» السياسية والاجتماعية والاقتصادية ركناً أساسياً من أركان الفكر والعمل السياسيين؟ هل كان الحضور الصارخ القوي للرئيس أردوغان، سياسياً وإعلامياً، بعد الوصول إلى موقع الرئاسة، وفي الشكل الذي عايشه الجميع، هو السيناريو الأنسب في إطار التوازنات المحلية والدولية؟ هل ساهم هذا الحضور الطاغي له في تهميش رئيس الوزراء الذي أصبح عملياً رئيس الحزب، وكان يجب استمرار حضوره في شكل واضح؟ وهل زاد الأمر «تخويف» الآخرين، داخلياً وخارجياً، إلى درجةٍ دفعتهم للوقوع في «رهاب» شخصيٍ ضد الرجل يدفع لاجتماعهم ضد الحزب، ووضع كل الخلافات جانباً؟ هل ساهمَ الحزب في زيادة «الاستقطاب» في المجتمع التركي، من خلال توظيف ماكينة إعلامية ضاعفت، في عيون الآخرين، طغيان حضورهِ السياسي والاقتصادي والثقافي؟ هل كانت عمليات المراجعة الحزبية الداخلية مستمرة، وكل ما جرى أن الناس لم يسمعوا عنها؟ أم إنها توقفت، ولم يعد في الساحة إلا أصوات الداعمين والمبررين كل المواقف وكل القرارات، كما بدا لبعض المراقبين الخارجيين؟ هل تمت دراسة تفاصيل كل القرارات المتعلقة بالتعامل مع «الكيان الموازي» في شــكلٍ عـــلمي ومنهجي، وهل كان هناك اتفاق على أنها هي القرارات الصحيحة؟ هل كانت القرارات المتعلقة بالشؤون الخارجية، على تنوعها وتعقيدها، جماعية ومؤسسية ومدروسة، كما كانت الحال عليه قبل ذلك؟ هل من المناسب أن يتم إخراج عملية الانتقال إلى «دولةٍ كبرى» في لَبوسٍ من الممارسات والقرارات ذات الرمزية «الإمبراطورية» في مثل هذا العصر؟ هذه الأسئلة، وغيرُها، أسئلةٌ كبرى تحتاج إلى إجابات. وهي في مجملها تدخل في إطار التساؤل الأكبر عن نصيب حزب العدالة والتنمية من استدعاء (الأيديولوجيا) بالدرجة (الاستقطابية) الحادة التي عادت بها إلى الساحة. قد يكون الهروب من (الأيديولوجيا) كلياً مستحيلاً، لكن المؤكدَ أيضاً أن التنازل أمام إغراءات مكاسبها مدخلٌ للخطأ في الحسابات الاستراتيجية، حتى لو استمرت الماكينة الاقتصادية والتنموية تعمل في خلفية المشهد. وإذا انتقلنا من ساحة السياسة والأيديولوجيا إلى ساحة الاقتصاد، ما هو نصيب السياسات الاقتصادية للحكومة من ظهور أزمة الليرة؟ يتحدث الخبير الاقتصادي السعودي سامي السويلم مثلاً عن أخطاء تدخل في إطار تلك السياسات حين يقول: «ما يحدث اليوم في تركيا حدث في شرق آسيا قبل نحو 25 سنة، وانتهى بأزمة كبيرة عام 1977. جوهر المشكلة يُعرف في الأدبيات الاقتصادية بالخطيئة الأصلية (original sin) فما هي هذه الخطيئة؟ الخطيئة الأصلية هي الاختلال بين أصول الشركة والتزاماتها الناتج من الاقتراض القصير الأجل في حين أن المال يُستثمر في مشروعات عائدها طويل الأجل (maturity mismatching) أو الاقتراض بعملة أجنبية، كالدولار، في حين أن الإيرادات تكون بالعملة المحلية كالليرة (currency mismatching)». ثم يستفيض الخبير في شرح أسباب المشكلة من مدخل اقتصادي بكل مفرداته وعناصره، وبطريقةٍ لا يكاد المستنفرون العرب لليرة التركية يُلقون لها بالاً من قريبٍ أو بعيد. يعلم أهل العدالة والتنمية، أكثرَ من غيرهم، أن التعامل مع الأسئلة المطروحة وموضوعِها بمنطق الحشد والتبرير، والإحالة إلى العوامل الخارجية، لا يُفيد في قليلٍ أو كثير. هذه ليست قاعدةً خارجية، وإنما هي من ملامح فكرهم السياسي، في أول عقد ونيف من هذا القرن في الأقل. الحشد والتبرير من ملامح أزمتنا، عرباً في شكل عام، وإسلاميون منهم كثيرون، تحديداً. ومعها إلقاء تبعات كل ما نعاني منه على الآخر، والبحث المفرط عن زعيم ملهم، والبحث عن الذات في ماضٍ إمبراطوري تدغدغ التجربة التركيةُ المشاعرَ بإمكان استعادته. وإذ يبدو ممكناً أن تتغير المعادلات السياسية والاقتصادية في شكلٍ تتعافى معه الليرة التركية، فإن السؤال يبقى قائماً، وقتئذ، عن أزماتنا ومشكلاتنا غير القابلة لصرفٍ أو تصريف.
مشاركة :