د. خليل حسين لطالما كانت القارة الإفريقية مركزاً للشد والجذب بين القوى الكبرى وبخاصة الولايات المتحدة، إلا أن سياسات هذه الأخيرة في مختلف الإدارات التي تعاقبت على الحكم، وبخاصة بعد محاولة تفردها في قيادة النظام العالمي، أعطت لهذه القارة مسارات أخرى في تعاملها مع العديد من القوى الصاعدة اقتصادياً وبخاصة الصين ؛ حيث بدت بكين وكأنها تستعد لملء الفراغ الذي تركته كل من واشنطن وموسكو وغيرهما للعديد من الأسباب والاعتبارات.فمعظم دول القارة السمراء الأربع والخمسين، شعرت في العقدين الأخيرين بنوع من الإحباط، نتيجة السياسات الأمريكية التي تحوّلت من مبدأ المساعدات التي كانت تحوّلها إلى العديد من الدول، إلى مبدأ التعاون والشراكة على قاعدة الاستثمارات في غير ملف وبخاصة النفطية، مقابل صرف النفوذ السياسي والعسكري والأمني، ومما أسهم أيضا في تراجع هذه السياسات وضمورها مع موجة الإرهاب التي عصفت بالعديد من دول القارة، وبخاصة النفطية مثل نيجيريا والكونغو وليبيا وغيرها، ما انعكس كعامل إضافي للتراجع الأمريكي. في المقابل لم تكن الصين بعيدة عن أجواء إفريقيا، فمنذ العام 1978 وبكين تفتح عينها على مجمل مقدرات القارة السمراء الاقتصادية والسياسية، وما أعطاها زخما إضافيا ضمور الأدوار الأخرى، ما فتح المجال واسعا للتدخل، وما كان مؤتمر«فوكاك» الذي نظمته الصين إلا مدخلا منظما لما تتطلع إليه من استثمارات وسياسات بديلة تميّز موقعها في دول القارة ومنظماتها المتنوعة ؛ ذلك عبر خطوات ثابتة نحو استكمال استراتيجيتها الاقتصادية الشاملة، التي تخطّت الأنماط التجارية التقليدية، التي تمثّلت في اتفاقات حرة وأُطر التعاون مع كثير من دول العالم، الأمر الذي جعل من القارة الإفريقية هدفاً أساسيا لاستثمارات بكين مؤخرا، وتحديداً منذ إعلانها مبدأ الشراكة والتعاون مع العديد من الحكومات عبر مشروعات كبيرة تتصل بالبنى التحتية لتلك الدول. وقد عزّزت الصين نفوذها في القارة الإفريقية، مع احتضانها للقادة الأفارقة وكبرى الشركات في منتدى التعاون الصيني الإفريقي (فوكاك) الذي حضره أكثر من 30 رئيس دولة، وعدد من رؤساء الحكومات ووزراء الخارجية، والذي اختتم أعماله مؤخرا برفض المسؤولين الصينيين والأفارقة الانتقادات المُوجَّهة للمشاريع الصينية، باعتبارها تراكم من عبء الديون الإفريقية.وفي لغة الأرقام، تمكنت الصين خلال السنوات الخمس الماضية من تبوؤ المركز الأول كشريك تجاري للدول الإفريقية، ومرد ذلك إلى استثماراتها في غير دولة، واعتماد سياسة المصالح المتبادلة، إضافة إلى عدم التدخّل في شؤون الدول الداخلية، كما تبنّت سياسة القروض الميسّرة والمساعدات غير المشروطة بمطالب محددة كحقوق الإنسان والحريات وغيرها من الشروط التي تضعها الدول الغربية عادة وبخاصة الولايات المتحدة. ووفقا للإحصاءات الصينية، بلغ حجم التبادل التجاري بين الصين والدول الإفريقية في عام 2017 أكثر من 170 مليار دولار، بعدما لم يتعد 765 مليون دولار عام 1978، أي بنمو وصل إلى 14 % سنوياً، فيما بلغ حجم التبادل التجاري بين واشنطن والقارة الإفريقية في العام ذاته 39 مليار دولار. كما وصلت قيمة الاستثمارات من المؤسسات الصينية إلى القطاع غير المالي 3.1 مليار دولار في العام 2017. كما أقامت الصين عقوداً جديدة بقيمة 76.5 مليار دولار في العام ذاته، كما تم إنجاز أعمال استثمارية وصلت إلى 51.2 مليار دولار. كما أنشأت الشركات الصينية الكثير من الطرق السريعة وخطوط السكك الحديدية والموانئ والمطارات ومرافق الاتصالات، ما شجع على جذب الاستثمارات الأجنبية إليها. كما تمكنت من الاستحواذ على مجال التنقيب عن النفط، بخاصة في نيجيريا والكونغو والسودان. في المحصلة سعت الصين وبكل قواها للاستحواذ على أطر العلاقات المتينة مع دول القارة الإفريقية عبر منتدى «كوفاك»، ذلك كإطار تعاوني، والذي يبدو أنه سيكون كسياسة مدروسة لملء الفراغ الذي تسبب به ضمور أدوار العديد من القوى الفاعلة عالمياً.
مشاركة :