لا يمكن فهم الانشقاقات المتسارعة التي يعيشها حزب نداء تونس دون فهم مقومات تشكيله والظروف التي مر بها، وكيف أثّرت بشكل جلي على مسيرته، وقد تفضي إلى نهايته وتشكيل حزب جديد أو أحزاب صغيرة على أنقاضه. لم يكن نداء تونس حزبا قبل 2013، بمعنى أنه لم يكن يمتلك مقاربة لحكم تونس أو للشراكة في الحكم، وتقاليد لإدارة الحزب، وفجأة، وتحت ضغط الضرورة تم تشكيل الحزب من روافد متعددة ومتناقضة بهدف وحيد هو تحييد حركة النهضة وإخراجها من الحكم بعد المنزلقات التي عاشتها تونس، والتي كادت تحولها إلى بلد غير مستقر. لم يوفق نداء تونس إلى حد الآن في عقد مؤتمره التأسيسي، ومن ثمة لا يمتلك مدونة فكرية وسياسية تحدد هويته أو برامجه في مقاربة الأزمات، كل ما كان مطلوبا هو بناء حزب على طريق الفاست فوود يجتمع حول شخصية الرئيس التونسي الحالي الباجي قائد السبسي، بما يمتلكه من خبرات وبراعة في الخطاب وقدرة على المناورة والتحشيد، ما مكّنه في سياق ظروف محلية وإقليمية من أن يتصدر المشهد كرئيس للدولة، وفي نفس الوقت التمكين لنداء تونس ليكون حزب الأغلبية البرلمانية والحزب الحاكم في نفس الوقت. وبعد أن تحقق الهدف الذي تجمّعت له مقومات النجاح ماليا وإعلاميا وسياسيا، فضلا عن الدعم الخارجي، لم يجد المئات من الكوادر، وبعضهم لديه خبرات في العمل السري والمناورة وخوض الصراعات داخل الهياكل النقابية سواء في الجامعة أو في الاتحاد العام التونسي للشغل، ما يشغلون به بالهم حتى بحثوا عن مجال جديد للصراع، وكان صراعا في الداخل، للسيطرة على الحزب وتصدر الأضواء، وهناك من استعجل التخطيط لخلافة الباجي قائد السبسي على رأس الحزب وربما في رئاسة الدولة من بوابة ماكينة النداء.وفي ظل النجاح، الذي يفتقد إلى مقومات ومقاربات استراتيجية، تتوالد الأزمات، وظهر نجل الرئيس، حافظ قائد السبسي لتأكيد أحقيته بقيادة الحزب الذي بناه والده وكان له الفضل الأكبر في التحولات التي عرفها الحزب، وخاصة في تحشيد الداعمين من رجال الأعمال وقيادات الدولة العميقة من كوادر أمنية وقدماء السياسيين. وغذى صعود السبسي الابن الصراع على الشرعية داخل حزب تتغير هيئاته المركزية حسب الأمزجة، فمن يبادر الأول يمكن أن يعقد لقاء قياديا ويضفي عليه الشرعية، ويؤسس شقا من الشقوق. ولم يستمر الأمر طويلا حتى انسحبت أغلب الروافد التي استقطبها السبسي الأب، وأسست أحزابا صغيرة تحوم حول الحزب الأم. علاقة متقلبة علاقة متقلبة أزمة الداخل نجح خيار المناورة في التغطية على تأثير الانشقاقات لأشهر، بإعطاء الفرصة لقيادات الصف الثاني في الحزب، وخاصة في البرلمان، الذين وجدوا أنفسهم في الواجهة وحاولوا ملء الفراغ الذي تركته شخصيات مؤثرة في التسويق للحزب، وخاصة في إثارة قضايا مستشكلة بشكل متواتر بوجه الخصم السياسي الأول، حركة النهضة، ما جعلها تلهث وراء التوافق واسترضاء الحزب الحاكم وخدمته، خاصة في تمرير قوانين هو أكبر مستفيد منها، خاصة مسألة المصالحة الاقتصادية. لكن قيادات الصف الثاني، وأغلبها من الشباب، ولا تمتلك خلفيات أيديولوجية كافية، ولم تتمرس على المناورة في الغرف المغلقة، لم تنجح في ملء الفراغ في الخطاب السياسي، وعقد التحالفات. كما أنها فشلت في أن تحافظ على وضع تحشر فيه حركة النهضة في الزاوية، ما مكن راشد الغنوشي من أن يناور في الداخل والخارج، حتى أنه صار قادرا على اللعب داخل نداء تونس، وساعد بشكل أو بآخر على توسيع الهوة بين الحزب الحاكم ومرشحه لرئاسة الحكومة يوسف الشاهد. ولكن المشكلة الأكبر في نداء تونس أن الحزب عمل على تصدير أزمته إلى الخارج.. كان يطارد النهضة، ويراهن على استثمار ضعفها لإحكام سيطرته على الحكم، وإبعاد أي تأثير لخصومه خاصة الذين انشقوا عنه. وتناسى بناء مقومات الحزب، وهي مقومات ضرورية، وتضفي شرعية على من يديره، وتربحه الكثير من الوقت والجهد، وهو ما لا يمتلكه حافظ قائد السبسي في يده حاليا، وإحدى أبرز نقاط ضعفه. وكشف الانشقاق في الكتلة البرلمانية، ثم الاستقالات لاحقا، أن نداء تونس يفتقد للمرجعيات التي يلجأ إليها المختلفون لحسم الخلاف أو تبريده إلى حين البت فيه داخل المؤسسات. والمفارق أن قيادات الصف الثاني، التي استلمت نداء تونس بعد انشقاق الروافد المؤسسة، تفتقد للتكوين الحزبي، كما أنها لم ترتق إلى المسؤوليات عن طريق الانتخاب، ولم تنتقل من مؤسسة وسطى إلى مؤسسة عليا لتكتسب تراكما في تقاليد القيادة والقرب من القواعد، مثل ما يجري لدى خصومهم في حركة النهضة، التي ساعد وجود مؤسسات قوية لديها على كبح الانشقاقات ونشر الغسيل في وسائل الإعلام. غياب المؤسسات كشفت استقالة ثمانية من نواب حزب نداء تونس، والتحاقهم بالكتلة المتشكلة حديثا، كتلة الائتلاف الوطني المحسوبة على رئيس الحكومة يوسف الشاهد، أن الحزب لا يمتلك أي نفوذ على نوابه، وربما لا يتواصل معهم ليعرف مشاغلهم وخلافاتهم ويسعى إلى حلها وفق آليات منظمة ومثار ثقة من الجميع. الحزب تم اختزاله بشكل كبير في شخص المدير التنفيذي حافظ قائد السبسي وبعض المحيطين به، الذين تكشف تصريحاتهم أن الأزمة ليست طارئة، وأن قنوات التواصل شبه منعدمة بين قيادة الحزب التي تتغير باستمرار، وبين نوابه. قيادات الصف الثاني، وأغلبها من الشباب، لا تمتلك خلفيات أيديولوجية كافية ولم تتمرس على المناورة في الغرف المغلقة، لم تنجح في ملء الفراغ في الخطاب السياسي ويكفي أن نشير هنا إلى تصريح خالد شوكات، الذي وصف فيه المنشقين بالجرذان، في استعارة للكلمة الشهيرة التي أطلقها القائد الليبي معمر القذافي في توصيف معارضيه. وقال شوكات إنّ “الجرذان فقط تفرّ من السفينة”، وإن هؤلاء “علاقتهم بالسفينة كانت قائمة أصلا على المصلحة والارتزاق وأنّ السياسة مواقف شرف ووفاء ورجولة”. ولا تفهم هذه التدوينة، التي كتبها أحد أكثر القيادات هدوءا وانفتاحا ودفاعا عن المؤسسات، سوى كتعبير عن حالة التوتر بين قيادات النداء تجاه “الانقلاب” الهادئ الذي يقوده الشاهد داخل الحزب، وهو بعيد عن مقره وقياداته، أي انقلاب عن بعد. وربما دفع هذا التوتر، الذي يخفي عجزا عن توقيف انزلاق الوضع بشكل لا يمكن السيطرة عليه، إلى التلويح بفصل الشاهد من الحزب، وهي خطوة ربما تهدف إلى استباق قرار من رئيس الحكومة بإعلان استقالته والتحضير لحزب جديد، لكنها في كل الحالات لا تعبر عن قوة أو حزم، بل تسليم بما هو متوقع. كل المؤشرات تتجمع لتؤكد أن الحزب يعيش وضعا صعبا بسبب غياب المؤسسات القادرة على إدارة الحوار وتحديد استراتيجيات الحزب وخططه المرحلية. وهذا بدا واضحا في تصريح القيادي بالحزب وسام السعيدي، عند تقديم استقالته الاثنين في إذاعة خاصة، حين حث بقية القيادة على الصراخ من أجل تصحيح المسار داخل حزب النداء أو الخروج منه. وحملت زهرة دريس، أحد الثمانية الذين استقالوا السبت الماضي من كتلة النداء، سبب الأزمة إلى المدير التنفيذي لحركة نداء تونس، الذي قالت إنه “يستحوذ على القرار صلب الحركة بشكل فردي ولا يقيم أي اعتبار لهياكل الحزب وقيادييه”. يقود انقلاب هادئ يقود انقلاب هادئ مؤتمر الإنقاذ بعد أن نجح في تطويق أزمة مشابهة لأزمته الحالية، أقر الحزب في يوليو الماضي عقد مؤتمره يومي 29 و30 من الشهر الجاري في مسعى لانتخاب مؤسسات شرعية، وخاصة إكساب القيادة الحالية، التي تتهم باحتكار القرار، الشرعية اللازمة لإدارة شؤون الحزب وضبط خطة مشاركته في الانتخابات الرئاسية والتشريعية. لكن الاستقالات الأخيرة ستحول المؤتمر إلى تجمع للمقربين من حافظ قائد السبسي، بدل أن يكون فضاء لقوتين متنافستين تميل إحداهما لاستعادة الشاهد إلى الحزب ليصبح عامل قوة وإثراء بدل أن يتحرك خارجه ويساهم في تفتيت الحزب. ورغم أن تأخير موعد المؤتمر سيكون صعبا، وقد يساهم في إثارة الخلافات مجددا، لكن ليس أمام القيادة الحالية سوى تأجيله لبعض الوقت لإعادة التجميع، والكف عن تحويل الخلاف بين السبسي الابن وبين الشاهد إلى عنصر مدمر. فلا المدير التنفيذي بقادر على إدارة الحزب لوحده، ولا الشاهد يستطيع أن يخلق بديلا أقوى من نداء تونس يمكنه من الوصول إلى الرئاسة. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن ما يحققه الشاهد من “نصر” معنوي على حساب السبسي الابن، ليس سوى نصر محدود، لأن النواب الذين يجمعهم من حوله ليسوا دائمين، وهم أنفسهم يحتمون بالشاهد للعودة إلى البرلمان مرة أخرى، أو بهدف الحصول على مراكز قيادية في مؤسسات الدولة، وهذا لن يتم إلا من بوابة حزب قوي قادر على النجاح في الانتخابات والتصدر للحكم. هل يقدر الشاهد، والفريق المحيط به من نواب ترشح أغلبهم للبرلمان عن نداء تونس، على تحقيق اختراق في المشهد السياسي؟ الإجابة صعبة لأن الداعمين لنداء تونس من مراكز النفوذ في الدولة العميقة، وحتى من دوائر خارجية حريصة على استقرار تونس، سيجدون أنفسهم مضطرين إلى اختيار جهة واحدة لدعمها؛ إما الحفاظ على النداء وإما دعم الشاهد، وفي كلا الحالتين، فإن جزءا من النداء سيجد نفسه خارج اللعبة، أو على الأقل يتحرك في هامش ضيق بلا دعم ولا رهانات محلية ودولية عليه. ربما يراهن الشاهد على أن نداء تونس أخذ فرصته بما يكفي، وأنه لن يخرج معافى من أزمة الانشقاقات، وأن حزبا ليبراليا جديدا يؤسسه يمكن أن يملأ الفراغ ويعيد بناء التحالفات التي فشل فيها حافظ قائد السبسي والمحيطون به. لكن الأمر ليس بالسهولة، فيمكن أن يؤسس الحزب سريعا وبحملة إعلامية وسياسية قوية، لكنه سينتهي إلى نفس المآلات طالما أنه ينطلق من نفس المقدمات، أي الارتباط بالشخص بدل المؤسسات.
مشاركة :