كثيرا ما يتساءل المشتغلون في حقل الفكر الفلسفي العربي في محافلهم المتخصصة عن واقع حال هذا الفكر في عصر تداخلت فيه المعارف، وانهارت الأنساق العامة للفكر الموروث من الغرب أو من الشرق، وأصبحت الممارسة الفلسفية نوعا من التحليل أكثر منها نوعا من البناء، وفيهم فئة كبيرة من المتعلقين بأهداب التركة الفلسفية التي تلقّوها في جامعاتهم، وجعلوا منها موضوعا لأطاريحهم الجامعية، ولعل انشغالهم الأساس قد انصب على التلخيص والعرض، وفئة أخرى جعلت من تحليل النظم الفلسفية موضوعا لها، وبين أولئك وهؤلاء ندرة من الباحثين الذين شغلوا بالبحث عن طريق مغاير للفكر الفلسفي الذي تناهبت موضوعه علوم ومعارف جديدة، ومع أن فئة من هؤلاء عكفت على موضوعها لكنها مازالت تواجه بصعاب العمل في بيئة غير فلسفية، وتلاقي الأمرين في نشر أفكارها، وإذا نجحت في ذلك فإنها تقابل بعزوف عام عن الاهتمام بما بذلت من أجله الغالي والنفيس وبالاجمال، فالنظرة العامة للممارسة الفكرية تكشف عن معضلة تستوطنها، وهي «مماثلة» الثقافة الغربية و»مطابقة» تصوراتها في استخدام المناهج والمفهومات والفرضيات والنتائج، ويعود ذلك الى سببين رئيسيين، أولهما: هيمنة «المركزية الغربية» بمحدداتها الثقافية، وهي تمارس أنواعا من متعددة من محو الثقافات الأخرى بوصفها نموذجا للثقافة العالمية المعاصرة، وثانيها: الاستجابة السلبية لمعطيات الثقافة الغربية التي روجت لها المركزية الغربية، وهذا السبب يتصل بهوية الثقافة العربية التي لم تتبلور ملامحها الرئيسية بعد، لتكون قادرة على الحوار الحي مع الثقافة الغربية، وفيما ينبغي أن تفكك المركزية الغربية التي استقامت بفعل أسباب فلسفية واقتصادية وسياسية، لتخفيف الضرر الذي تلحقه ب «ثقافات الاطراف»، فإنه ينبغي التدقيق في الأسباب التي جعلت الثقافة العربية تستجيب سلبيا لثقافة الآخر بدل أن تتفاعل معها بصورة نقدية. من الضروري العمل على صوغ منظور نقدي لنوع من «الاختلاف» بدل «المطابقة». ليس المقصود ب»الاختلاف» الدعوة الى قطع الصلة مع الآخر ذلك، فذلك يفضي «الانغلاق « إنما التفاعل النقدي معه. إن اختلافا مشروطا بالوعي، يمكن أن يمنح الثقافة العربية هويتها المنفتحة على الثقافات الأخرى، بما يدفع بها من واقع «المطابقة «الى أفق «الاختلاف». وكما أنه لكل ضرورة شروطها الخاصة بها، ف»الاختلاف» مشروط بمحددات تنظم استراتيجياته، ومن ذلك إعادة النظر في طبيعة العلاقة التي تربط الثقافة العربية الحديثة بأصولها الموروثة من جهة، وبالثقافة «الانسانية» من جهة أخرى وتشكيل منطقة تفكير لا تتقاطع مع كل ذلك، ولكنها لا تذوب فيه بما يفقدها أسئلتها المتعلقة بظواهر خاصة بها. يوفر «الاختلاف» حرية في ممارسة التفكير دون الشعور بإثم الانفصال عن الماضي ولا خشية التناقض مع الحاضر. ليس من السهولة ظهور «الاختلاف» الذي ينزع الشرعية عن كثير من الممارسات الفكرية السائدة، أو أنه يعيد إدراجها في سياق أكثر فائدة، فالاختلاف المطلوب هو: الانفصال الرمزي عن الآخر، بما يمكن من رؤيته بوضوح كاف، والانفصال الرمزي عن الذات، بما يمكن من ضبط مسلّماتها، ذلك أن التطابق الكلي مع الذات يولد نوعا من العماء الخطير الذي لا يقل عن الانقطاع التام عنها ووضع مسافة «اجرائية» بين الذات وتصوراتها من جهة وبينها وبين تصورات الآخر من جهة ثانية، إنما هو الضرورة التي يقتضيها الاختلاف الهادف الى بناء هوية ثقافية متماسكة. ان «الاختلاف الفلسفي» هو المرشح لأن يدفع ثقافتنا من واقع المطابقة الى أفق «الاختلاف». تعود الحاجة الماسة ل «الاختلاف» إلى بروز ثنائيات مبهمة في نسيج الثقافة العربية الحديثة، منها: الأصالة والمعاصرة، والأنا والآخر، والماضي والحاضر، وغيرها. وقد نجحت تلك الثنائيات في إحداث انقسام شديد في التصورات، وأصبحت تمثل «مرجعيات» يصدر عنها هذا المفكر أو ذاك. وأصبحت علاقة الثقافة العربية تترتب مع موضوعاتها وتوصلاتها في ضوء تلك المرجعيات وكأنها ثوابت نهائية. وانقسمت الممارسات الثقافية، ومنها الفلسفية، على قسمين: قسم يذهب الى أنه لا سبيل أمام ثقافتنا الا بالاندماج التام في ثقافة الآخر، بوصفها ثقافة شاملة وكونية، وقسم يقول إنه لا سبيل الا الصدام الثقافي بالآخر، بسبب جملة الاكراهات التي مارسها على الثقافة العربية، إن عرض هذين الموقفين ونقدهما يكشف أهمية «الاختلاف» بوصفه خيارا لا تفرضه حالة القطيعة مع الخيارين المذكورين، ولا هاجس التوفيق بينهما، إنما يفرضه منطق التشكل الثقافي الذاتي الخاص.
مشاركة :