إن المتدبر لمعاني الهجرة الشريفة يستنبط منها دروسًا عظيمة، ويستخلص منها فوائد كثيرة، ويلحظ فيها حكمًا باهرة يستفيد منها الأفراد والأمة بعامة في شتى مجالات الحياة، ومن تلك الدروس والحكم ما يلي: - الثبات على المبدأ: حين صدع الرسول (صلى الله عليه وسلم) بدعوته وعمل على نشر رسالته وقف المشركون في طريق دعوته مستخدمين كل أساليب البطش والتنكيل والتعذيب ليمنعوه من أدائها، حتى وصل بهم الأمر إلى العمل على قتله والخلاص منه: «وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أو يَقْتُلُوكَ أو يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ» [الأنفال:30]. ولقد واجه الرسول (صلى الله عليه وسلم) الشدائد بعزيمة الرجال وصبر الأقوياء ويقين المتوكلين وإيمان الموحدين : (والله يا عم لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلك دونه). إن على الأمة أن توقن أن من كان في معية الخالق لن يضره أذى، وإن حقيقة التوكل على الله هي الحصن الحصين. - الأخذ بالأسباب: الإسلام دين لا يعرف التواكل، بل يحاربه وينبذه، ولا يعرف التواني والكسل والخمول، وإنما هو دين الأخذ بالأسباب والتوكل على الله، قال تعالى:« مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أو أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ»(النحل:97). وفي الحديث عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ (رضي الله عنه) قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلى الله عليه وسلم): (لَوْ أَنَّكُمْ تَتَوَكَّلُونَ عَلَى اللهِ حَقَّ تَوَكُّلِهِ، لَرَزَقَكُمْ كَمَا يَرْزُقُ الطَّيْرَ، تَغْدُو خِمَاصًا وَتَرُوحُ بِطَانًا). تغدو: تذهب أول النهار، وتروح: ترجع آخر النهار. (رواه الترمذي). لهذا رأينا رسول الله (صلى الله عليه وسلم) يضع خطة الهجرة بمنتهى الدقة والحكمة مستخدمًا الفكر والعقل فقبل أن يهاجر إلى المدينة تعاهد مع أهلها على نصرته وحماية دعوته، في بيعتي العقبة الأولى والثانية. إن الموقف يتطلب من المسلمين تفعيل هذا المبدأ الإسلامي المهم وهو الأخذ بالأسباب وتضافر الجهود في سبيل العمل على نهضة الأمة الإسلامية ورفعة شأنها. أداء الأمانات تبرز قيمة الأمانة في الهجرة المباركة حيث أمر النبي صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب رضي الله عنه بتأدية الأمانات التي كانت عند النبي صلى الله عليه وسلم إلى أهلها حتى وإن عادوه وأخرجوه؛ فهو القائل صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «أَدِّ الأَمَانَةَ إلى مَنْ ائْتَمَنَكَ، وَلاَ تَخُنْ مَنْ خَانَكَ». جامع الترمذي وليست الأمانة مقصورة على ذلك فقط فالهجرة في مجملها كانت تأدية لأمانة الدعوة ونشر الدين. - الإعداد والتخطيط الجيد أعد الرسول الكريم (صلى الله عليه وسلم) لكل أمر عدته بالرغم من عصمة الله له، وذلك باختياره للوقت المناسب والرفيق المناسب وأساليب التعمية والتمويه على القوم، ويتجلى ذلك حين أمر «عليا» أن ينام في فراشه، وحين اتجه ناحية الجنوب مع أنه كان يقصد المدينة المنورة شمالا، وحين ظل بالغار ثلاثة أيام، واختياره لمن يهديه الطريق، وتدبير أمر الطعام والشراب، واختياره لمن يأتي له بأخبار العدو. - معية الله عز وجل: لما أذن الله لرسوله بالهجرة، خرج بصحبة أبي بكر الصديق فأقاما في غار ثور ثلاث ليال، وقريش تطلب النبي وصاحبه، وتجعل لمن يأتي بهما مائة من الإبل، وتبحث عنهما في كل مكان، حتى كثر الخطر، ولما بلغ المشركون باب الغار، قال أبو بكر (رضي الله عنه) للرسول (صلى الله عليه وسلم): (يَا رسولَ الله، لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيهِ لأَبْصَرَنَا. فَقَالَ (صلى الله عليه وسلم) قول المؤمن الواثق من معية الله له: يا أبا بكر، (مَا ظَنُّكَ باثنَيْنِ الله ثَالِثُهُمَا)، وصدق الله تعالى حيث قال: « إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلَى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيَا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»(التوبة:40). وكذلك الأمر، عندما تبعهما سراقة بن مالك حتى لحق بهما، وهو على فرس له، فالتفت أبو بكر، فقال: يا رسول الله هذا الطلب قد لحقنا، فقال النبي (صلى الله عليه وسلم): (لا تحزن إن الله معنا). فكان كذلك، إذ صد الله سراقة، وعاد أدراجه بعد أن أعطى الأمان لرسول الله، وعرض عليه الزاد والمتاع، بل وعاد يصد ويرد كل من يلقاه في طريقه يطلب محمدا وصاحبه. التضحية إذا تأملنا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه رضي الله عنهم فإننا سنجد أن كلها تضحيات كبيرة من أجل الله عز وجل بداية من النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه المهاجرين الذين خرجوا من ديارهم وأموالهم ووصفهم الله عز وجل بالصدق، ونهاية بموقف الأنصار الذين استقبلوهم وضحوا بكل ما يملكون في مواساتهم ونصرتهم. عَنْ سَعِيدِ بْنِ الْمُسَيَّبِ قَالَ: خَرَجَ صُهَيْبٌ مُهَاجِرًا إلى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاتَّبَعَهُ نَفَرٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، فَنَثَرَ كِنَانَتَهُ وَقَالَ لَهُمْ: يَا مَعْشَرَ قُرَيْشٍ، قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي مِنْ أَرْمَاكُمْ، وَاللَّهِ لَا تَصِلُونَ إلى حَتَّى أَرْمِيَكُمْ بِكُلِّ سَهْمٍ مَعِي، ثُمَّ أَضْرِبَكُمْ بِسَيْفِي مَا بَقِيَ مِنْهُ فِي يَدِي شَيْءٌ، فإن كُنْتُمْ تُرِيدُونَ مَالِي دَلَلْتُكُمْ عَلَيْهِ. قَالُوا: فَدُلَّنَا عَلَى مَالِكَ وَنُخْلِي عَنْكَ. فَتَعَاهَدُوا عَلَى ذَلِكَ، فَدَلَّهُمْ وَلَحِقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ : «رَبِحَ الْبَيْعُ أَبَا يَحْيَى»، فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى فِيهِ: «وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ». حب الوطن والحنين إلى مكة: هاجر الرسول الكريم من مكة إلى يثرب «المدينة المنورة» وعلّم الجميع درسا عظيما في حب الوطن فنظر إلى مكة المكرمة وهو يهاجر منها قائلا: «والله. إنك خير أرض الله وأحب أرض الله إلى الله. ولولا أني أخرجت منك ما خرجت» أخرجه الترمذي. ففي مكة نشأ صلى الله عليه وسلم وترعرع وفيها نزل عليه سيدنا جبريل- عليه السلام- بالوحي والمعجزة الخالدة القرآن الكريم. تعظيم دور الشباب في نصرة الحق: يظهر دور الشباب فيما قام به الإمام علي بن أبي طالب - كرم الله وجهه - حين نام في فراش النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الهجرة. فهذه المهمة لا يقدر على أدائها إلا شاب قد امتلأ قلبه إيمانا صادقا ويقينا. ولقد نفذها الشاب على خير تنفيذ ما كان له دور كبير في نجاح الهجرة. وكان للإمام علي مهمة أخرى لا تقل أهمية عن المهمة الأولى وهي: رد الأمانات التي تركها أصحابها عند المصطفى صلى الله عليه وسلم من أهل مكة. ودور عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنه الذي كان يقوم برصد تحركات قريش وأخبارها ونقلها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم حتى يأخذ الرسول حذره ويتعامل مع الأحداث على تصبر ويقين. وقام الشاب عامر بن أبي فهيرة راعي غنم أبي بكر الصديق بتوفير الطعام للنبي وصاحبه وإزالة آثار الأقدام التي يخلفها عبدالله بن أبي بكر عند ذهابه وعودته. دور مصعب بن عمير أول سفير في الإسلام، حيث أرسله النبي صلى الله عليه وسلم مع وفد يثرب بعد بيعة العقبة الأولى إلى يثرب كي يتولى نشر شؤون الدعوة ولتمهيد المدينة لاستقبال النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه من بعده. دور المرأة في الإسلام وعظمته: ويتجلى هذا الدور من خلال ما قامت به السيدة عائشة رضي الله عنها وأختها السيدة أسماء فقد كانتا نعم الناصر والمعين في أمر الهجرة فلم تفشيا سر الرحلة لأحد. وكانت السيدة أسماء تحمل الطعام والشراب كل يوم إلى الرسول وصاحبه في الغار، ولما لم تجد ما تحمل فيه الطعام والماء قامت بشق نطاقها نصفين وضعت في أحدهما الطعام والآخر الماء. ولهذا سميت بـ«ذات النطاقين». دور المسجد في الإسلام: قام الرسول صلى الله عليه وسلم فور وصوله إلى المدينة ببناء المسجد؛ لتظهر فيه شعائر الإسلام علانية بعد ما كان المسلمون يمارسون شعائرهم في مكة سرا، ولتقام فيه الصلوات التي تربط المسلم بربه، وليكون مدرسة للعلم يتلقى فيه المسلمون القرآن والحديث من نبيهم صلى الله عليه وسلم وليكون منطلقا للدعوة والجهاد في سبيل الله. تحقيق الأخوة بين المهاجرين والأنصار: قام الرسول صلى الله عليه وسلم بالمؤاخاة بين المسلمين «المهاجرين والأنصار» ولقد كان الأنصار مثالا رائعًا في التحلي بالإيثار وحب إخوانهم المهاجرين. والهجرة النبوية الشريفة مليئة بالعبر والدروس المستفادة. والواجب علينا نحن المسلمين أن يكون احتفالنا بذكرى الهجرة تطبيقا عمليا لهذه العبر والدروس. فينبغي ان نعلم أبناءنا كيفية التخطيط الجيد لحياتهم ومستقبلهم ومواجهة مشاكلهم والتحديات التي تعترض طريقهم. ويعد درس تحقيق الأخوة أكثر ما نحتاج اليه في مجتمعنا الإسلامي الذي أصبح يموج بالخلاف والنزاع الأمر الذي يتنافى مع ما يدعونا إليه الدين الحنيف. ويجب على الشباب والفتيات أن يأخذوا العبرة والعظة من الذين ضحّوا بأرواحهم وأموالهم في سبيل نجاح الهجرة وتحقيق النصر للإسلام. والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم هو القدوة والأسوة الحسنة فقد أعطانا المثل في الصمود والكفاح والصبر وأداء الأمانات إلى أهل مكة برغم ما لاقى منهم من شتى أنواع الإيذاء.
مشاركة :