لقد أضحى اليوم أنه لا مجال للشك بأن مجمل الثورات التي حدثت في المنطقة العربية كان بها ما بها من نصيب الدفع الأمريكي والغربي، ذلك كون ذلك الدعم العامل المُحرك في إشعال جذوة نيران تلك الثورات وتحت غطاء حقوق الإنسان تارة وحقوق الأقليات تارة أخرى، وهذا لا يعني أن المنطقة العربية كانت قبل ذلك خالية من الإخفاقات وترسبات الاحتقان السياسي والفساد الإداري بل على العكس فالعوامل كانت كامنة في المنطقة العربية، ولأسباب عدة يأتي على رأسها عجز النظام الرسمي العربي في اجتماعات القمم العربية المتتالية عن إيجاد إطار تنموي وحدوي جامع، وقد نتج عن ذلك إهداره وقتًا استراتيجيًا ثمينًا قد ضاع من عمر التوازنات الدولية في حقبة الحرب الباردة، والتي كانت تُعد فترة ذهبية سانحة لأن يسعى العرب إلى إنشاء قوة ذاتية تحميهم وتردع ما هو حاصل اليوم لهم من هجمة شرسة لتنفيذ مآرب الطامعين في مقدراتهم، وقتل عزتهم، وطمس معايير هويتهم وهو الأمر الذي أوصل الوضع العربي وشعبه ورجاله اليوم إلى حالة من التيه والفقر وقلة الحيلة، وهنا تؤكد كل المؤشرات أن ما جرى وسيجري من احتقانات، هو في حقيقته ناتج عما قد ضاع من سنوات التاريخ العربي الحديث، والتي كان من الممكن فيها إقامة مشروع عربي وحدوي مُتكامل في حقبة الحرب الباردة ومنذ مسعى الزعيم الخالد عبد الناصر رحمه الله الذي بذل ما بذل من جهد وروح صادقة لغرس بوادر نهوض هذه الأمة، إلا أن الخيانة والتخاذل من بعده قد دبَّا في مفاصل هذه الأمة. فتلك المرحلة بكل تجليات صيرورتها الزمنية شكلت أفضل فرصة قد ضاعت من يد النظام الرسمي العربي؛ إذ كان بإمكانه من خلالها القيام بمبادرات عربية تنموية وإصلاحية جامعة لحالة الوضع العربي، ثم جاء الرئيس العراقي صدام حسين بمحاولة أُخرى ومسعى آخر إلى إعادة شيء من هيبة الأمة وأنفتها إلا أن يد الغدر والتآمر الدولي قد امتدت إليه لتصفيته. أما اليوم، وبسبب تحولات معايير النظام الدولي وما يكتنفه من تكشير لأنيابه وكشفه بلا مواربة حقيقة أن معيار القوة هو وحده من يُحكم تشكيل قواعد النظام الدولي وأن قوانين هيئة الأمم وميثاقها لا يُمثلان شيئا أمام إرادة الولايات المتحدة وتوجهاتها العسكرية في جميع أراضي المعمورة، بمعنى أن النظام العالمي هو نظام من غلب وهو ما تُحاول الولايات المتحدة الغالبة اليوم فرضه من تصورات وأجندات سياسية تريد من خلالها تكريس إرادتها على مجمل الحراك الدولي وعلى قاعدة فرض القوة الصلبة ولا شيء دونها، وذلك السلوك العسكري الأمريكي الأحادي الجانب، هو ما عزز ويُعزز يومًا بعد يوم، نظرية أن الدول التي لا تمتلك رصيدًا من القوة العسكرية الصلبة لا سيادة ولا وجود لها بين الدول، وتصبح بذلك، أراضيها مُستباحة، ومناطق فراغ استراتيجي لتدشين حالة صراع الأقوى على مقدراتها ودماء وشعوبها، وما إرساء الولايات المتحدة لقاعدة النتف العسكرية على أراضي الوطن العربي السوري إلا دليل على هذا التوجه من عنجهية الولايات المتحدة وصفعها لقواعد وقوانين النظام الدولي، إن إرهاصات الصراع في سوريا ما كان لها أن تصل إلى ما وصلت إليه من دموية وخراب لولا مُحاولات أمريكا والغرب المُتصهين لتدمير هذا البلد العربي؛ وذلك إرضاءً لمآرب إسرائيل في إزاحة هذا البلد تحت ذرائع حقوق الأقليات، وغطاء حقوق الإنسان تارة ونشر الديمقراطية لشعوب الشرق تارة أخرى. والمفارقة أن هناك من الكُويتبة والأفراد عديمي الجذور المتأصلة في العروبة ومن مُستبطني خفايا الاختراق والمكر لأمة العرب من يحاول ركوب هذه الموجة تحت ذرائع طائفية ومذهبية وهؤلاء لا دراية لهم بتقلبات النظام الدولي ومقاصده المستقبلية؛ إذ من خلال أبسط أبجديات التساؤل التي نوجهها إلى أولئك الكُويتبة والذارفين لدموع التماسيح على أهلنا في سوريا وهم في حقيقة الحال لا يريدون لذلك النزيف العربي أن يتوقف، هل يرون أن الولايات المتحدة هي جمعية خيرية وأن كل ما يعنيها في هذا العالم هي ظُلمات شعوب الشرق والسعي إلى توفير العدالة الاجتماعية والديمقراطية لهم؟ وأين الولايات المتحدة من إنسانية الشعب الفلسطيني وحقوقه التي نُهبت على يد إسرائيل؟ والذي لولا الدعم الأمريكي والغربي اللا متناهي لها لما وصل حال الشعب الفلسطيني تحديدًا والشعوب العربية عامةً إلى ما وصلت إليه اليوم من ضياع وتقاذف لأمواج التآمر عليها من كل حدب وصوب، ففلسطين هي أم القضايا وجرح العرب النازف الذي بسببه وصل الحال إلى ما وصل إليه والولايات المتحدة ومن وراءها من الدول الغربية لا تنفك تؤكد دعمها لدويلة إسرائيل والمشروع الصهيوني على أرض العرب. فأين هذا الدعم الأمريكي المُجاهر لإسرائيل من تلك الدعوات الأمريكية التي تدعي بأنها تتدخل في القضايا العربية لدعم الشعوب وحماية المدنيين في إدلب سوريا؟ إذ يستعد في هذه المرحلة الزمنية المفصلية الجيش العربي السوري لإنهاء آخر فصل من فصول هذا الجرح العربي النازف على أراضيه وتحت قيادة حزب البعث العربي الاشتراكي ذلك الحزب العربي المُمانع لمآرب أمريكا والصهيونية العالمية في تدمير الوضع العربي وقتل هويته، ذلك الحزب الذي رفع ومنذ أكثر من عقدين من الزمن شعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة قد أكد على مر أكثر من سبع سنوات من الصمود في وجه الولايات المتحدة والصهيونية العالمية لإسقاطه ودفع سوريا من بعده إلى غياهب الفوضى والضياع، وكما فُعل بالعراق من قبل وليبيا وغيرها، ما هو قادم ومرصود في أجندتهم من بلدان الوطن العربي وخاصة ذات التوجه الثوري الممانع لأجندة إسرائيل وزرعها في المنطقة، وبالرغم أننا نُقر بأن حزب البعث العربي السوري لم يتسم بالجدية والتصميم المطلوب في المواجهة فيما مضى من تاريخ الحرب الباردة وإسقاطاتها على المنطقة فإنه ليس من المنطق اليوم أن يسعى أي عربي غيور إلى إسقاطه حتى يتم بعد ذلك تمرير المشروع الصهيوني الخطر من غير أي عقبات على باقي ربوع الوطن العربي وأوطانه، فذلك المشروع قد بُني أساسًا منذ زرع إسرائيل لنشر الفوضى والخراب في جميع بلدان الدول العربية؛ إذ إن مُقتضى المنطق والمصداقية الوطنية والقومية يفترض بقاء عين ترى بها الأمة شيئا من الأمل خير من العمى التام. وعلى ما تقدم فإن الجيش العربي السوري في هذه المرحلة يستعد لمُحاصرة آخر معاقل تنظيمات الإسلام السياسي التي تُسلحها وتمدها الولايات المتحدة والصهيونية العالمية بكل أصناف السلاح وهذه التنظيمات عمليا مُتحصنة بالمدنيين في مدينة إدلب السورية وقد جرّت الويلات والدمار على أهلها والجيش السوري مرحليًا بما يُشدد الخناق على تلك المجاميع التي أملت بالوعود الأمريكية وفقدت كل حس لفهم المآرب الدولية والصهيونية التي تُحاك للعرب ولمنطقتهم عبر التاريخ، ففي كل مُتغير تُحركه الصهيونية العالمية في هذه الأمة تراهم يتحركون خدمة لها من غير فهم ولا دراية بحقائق النظام الدولي وتناقضات تشكله فعند بزوغ نجم الرئيس عبدالناصر رحمه الله، تم إغراؤهم بالتحرك ضده وفي العراق ومع تعالي مهابة الرئيس العراقي تم تحريك الإسلام السياسي الشيعي والشعوبيين والمتآمرين ضده، واليوم في سوريا يُعيدون نفس الأخطاء إذ أغرتهم الولايات المتحدة وأتباعها بالثورة ضد النظام العربي السوري فثاروا ودمروا سوريا بتسليح وتمكين أمريكي واضحين، ومع كل ذلك التاريخ يُجاهرون بأصواتهم بتحرير فلسطين من القبضة الإسرائيلية.. فأي سفاهة وتناقض في تلك المواقف؟. hassanalaswad@hotmail.com
مشاركة :