عادة ما تأخذ الحياة جزءاً كبيراً من الأحداث الأكثر غرابة، لتؤكد وجود عائق لحياة واقعية، يخفي وراءها أشياء كثيرة متناقضة،و"موريس مرلو بونتي" قال: بان مجاوزة التناقضات الإنسانية أمر ممكن) ثم اقتضي الاستدلال بالشاهد لأنه في موقع حاسة سادسة تنبئ بأن الإنسان قد يخلق حالات ثم يناقضها، فتصمت الشوارع وتخفت أنوار البيوت، ويعم السكون، رغم زمجرة التناقضات في عمق الصدور، ويتضاعف التوتر، ثم يسأل العقل كيف نؤمن بضمير العلم، وهو الذي صنع القلم والبندقية، ثم منح حياة أفضل وموتاً أسرع، وكيف تنادي المؤسسات العالمية بضرورة الغذاء ومراقبة الدواء والرفق بالحيوان، وهي تستخلص من الصناعة طاقاتها لتقدم أفضل برامج التقنية للعالم، وبالمقابل تخفي الوجه الآخر من السياسة لتبقى العدالة مقايضة ورهاناً، ليشهد العالم تحولاً جوهرياً لا إنسانياً، غالباً ما تثير هذه المعطيات بركان الرغبة في المعرفة، لماذا كلما تطور البشر ازدادوا عنفاً وتحالفاً مغلوطاً، ولكن الخوف المتربص خلف الأبواب، يضاعف حاجز الحذر، فتتراجع تيارات الغرابة، لتصبح حالة شبه عادية. ولكن كلما نشطت التناقضات تجددت الإثارة، وفتحت آفاق مزعجة تنبثق منها قوة غير متوقعة ومجهولة تزعزع استقرار النفس والقناعة، وفي لحظات الاضطراب هذه كتب "دوسيرتو " ليس السبب في الفوضى التي ترافق الأحداث وإنما في الاضطراب الناتج عن هذه الفوضى، فتصنع نظاماً مختلفاً في ارتباط وثيق مع مظاهره الهدامة). لقد هيمنت التناقضات على العالم واندرجت تحت أنظمة وضرورة سببية، ووثائق تؤكد صحتها، وتاريخ يحمل في طياته إحاطة تامة وموثقة بعضها واضحة وأخرى غامضة لم تنشر، فمن المؤكد أن تظل هذه المتناقضة مفتاح علم لباب التناقضات في الرياضيات، -تناقض المنطق - مما قال عنه الفلاسفة ومعلمو هذه المادة: (إن القوانين المستعملة للبرهنة فهي خاصة لا عامة وأصلها المستوي لا الفضاء وهذا خطأ كبير لأن الرياضيين انطلقوا من قضية جزئية ليستنتجوا قضية كلية وهذا مناف لقواعد الاستنتاج العقلي). وقبل أن نسترسل في عمق الأشياء دعونا نعرج على التناقضات عند نزار قباني عندما قال: فشلت جميع محاولاتي في أن أفسر موقفي فشلت جميع محاولاتي مازلت تتهمينني كأني هوائي المزاج، ونرجسي في جميع تصرفاتي إلى أن قال بكبرياء: فتقبلي عشقي على علاته وتقبلي مللي.. وذبذبتي.. وسوء تصرفاتي فأنا كماء البحر في مدّي وفي جزري وعمق تحولاتي إن التناقض في دمي وأنا أحب تناقضاتي..... كم هو مؤلم هذا التناقض إذا ساور الحب، وتعارض مع المفهوم الذي تستقيم به الحياة العامة، يوشك حينها المرء أن يؤدي مشاعر متذبذبة بين النقيض والشك، فيفتح أفقا لا متناه. وغالباً ما تواجهنا الحياة بأفظع التناقضات، لا تكاد تتغير حتى تتجدد، من أهمها تفاقم الخلاف والاختلاف وبناء قواعد وأسس ثابتة، فقالوا: إن التاريخ يكتب دوما من وجهة نظر الآبدين، باسم جهاز الدولة الموحدة، حتى عندما يتم الحديث عن ضمير العالم، تجد أن لغات عديدة تشير بأصابع الاتهام الى معنى واحد، كنقيض للتاريخ الإنساني، فكانت هيروشيما أكبر كارثة احتلت مقدمة قائمة الأكثر مأساوية في العالم... ولم ير العالم من قبل مثل هذا التدمير الذي أصابها، وشوه وجه الإنسانية بلا ذنب، وحريّ بنا أن نسجل هذه المتناقضة المرعبة، عن العلم والمخترع، بل كيف الضمائر ساهمت في هذا الدمار، ثم يترافع الغرب بعدها على المنابر، بمحاضرات عن الإنسانية والسلام وعن المعقول والممكن، كيف تنازلت القيم عن درء المكاره، وحماية الأنفس والأموال. ولئن كان سير الحياة قد ذهب بعيداً، فإن العلم قد خذلنا لا محالة، ثم ما لبث ان استعاد بريقه، ليبحث الكل عن نجاح يستطيع به تجاوز أزمة هذا العلم، ويدّون الأفكار العظيمة والنادرة لمصلحة الإنسان، وكمثال على ذلك "مؤلف حروب الأطفال الصليبية " لكاتبته : مارسيل شووب، فهذا الكتاب يكوثر الحكايات وكأنها هضاب ذات أبعاد متنوعة، وأيضا كتاب أندري زويسكس " "أبواب الجنة " وهو عبارة عن تسجيل مسترسل لاعترافات الأطفال الذين يمارسون البوح أمام القس العجوز الموجود على رأس الموكب، ويذكر للعالم كم هي التناقضات طريق ممهد للرغبات السوداء، على حد قول المترجم، الذي أوضح هدف وموضوع الكتابين، فكانت نماذج واقعية تستدعي العقل ليتوقف مذهولاً من تلك التناقضات باسم القداسة والرعاية الأبوية، الذي اعتزم كل منهم الترحال داخل منظومة متناقضة ليصور التعايش لكل الطبقات، ضمن حالة متشابهة، إن لم تكن واحدة، ليكتسي الكتاب طابعاً موحداً رغم التنافر.
مشاركة :